وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأحد، 18 نوفمبر 2018

تقطير العزلة كمحاولة لتدوير خانة الصفر

    مفتاح العمّاري  


تقطير العزلة على طريقتي
كمحاولة أخيرة لتدوير خانة الصفر
   من المجدي بين حين وآخر إعادة النظر في الكتابة نفسها، ليس بوصفها نصًا لغويا احتل حيزًا على الصفحة؛ إنما كتوق متوخّى، محلوم به، نسعى إلى استدراجه عبر إغوائه وجذبه، باستخدام حيل فنية مشروعة، طالما الهدف هو إنقاذ حشد من كلمات تختنق؛ إعادة النظر فيما سيكتب باعتباره نصا يتمخّض. وفيما لو اعتبرنا المخيلة رحما، والنص جنينا في طور التشكل والنمو، ستقتضي غريزة الأمومة الإصغاء لحركته ولغته وتململه، والحرص على تلبية رغباته، والاهتمام بضرورة تغذيته، ومراجعة الطبيب للاطمئنان على صحته، لأن أي إخلال بالمتابعة قد يسفر عنه موت الجنين داخل الرحم، مما يسبب في حدوث تعفن وتسمم وأعراض أخرى خطيرة يمكنها أن تؤدي إلى وفاة الأم أيضا.
     اختناق الكلمة وموتها، سيؤدي قطعا إلى موت المؤلف. وسواء أكان الموت حقيقة أم مجازا؛ فأن الفاجعة المحزنة أنه لا مناص من هيمنة سلطان الموت على الحياة كقيمة جمالية، وان خارطة القبح لا محالة ستتسع لتغزو مناطق كثيرة، ربما ستكون بمساحة وطن بأسره. أسوق هذه الصورة كناية عن تعطل الكتابة،لا توقفها، واختلال آلة ضخها، ونشرها ،وتداولها؛ كاختلال لمنظومة الخيال، في أكثر تجلياتها نبضا وحساسية. هذا الخوف المضمر هو ما دفعني إلى اقتراح كتابة نفسي، والاستئناس بالذاكرة تلهفًا لإشباع نوستالجيا بدت متطلبة تحت وطأة النبذ والصمت والعزلة؛ أن لا أحد يصغي إليك،أو يقرؤك، سيظل من الحكمة حينها أن تسارع إلى تمثيل دور المصغي والقارئ، لتكون الاثنين معًا،الباث والمتلقي في آن واحد. أن تصغي أخيرا إلى نفسك. وهذا ما حدث. 
    صحيح أنت محض  شخص واحد، أي مجرد فرد يلعب فيما تبقى من  الفراغ؛ كحيز تنعدم فيه خيارات الشراكة التي تكفل للنص تحقيق التفاعل مع الآخر(القارئ)؛ لكن إعادة النظر المتأنية ستصبح آخر التفاتة رحيمة إذا أفلحت في أن تجعل الشخص الواحد متعدّدا، يختزل حشدًا مستنفرًا لتدوير المخيلة والكلمات والصور، وأنت أيضا ستكون محورا افتراضيا، لتدوير نفسك، وذاكرتك، لأن مصيرك لا محالة سيغدو رهنا باللحظة ذاتها التي تكون خلالها قادرا على مقارعة النسيان واستدعاء كل ما هو تائه.

    انطلاقا من هنا سأبدأ مرة أخرى في كتابة نفسي؛ أي من عتبة هذه الحكمة المصونة، وبتضامن شجاع عبّرتْ عنه كل الحواس دون تجمّل أو منّة، سوف أقيم حفلا سريّا للإشادة بنوع متفوق من الحوار الذاتي. لما لا؛ طالما أن اللعبة برمتها تهدف إلى استعارة ذكية؛ ليس لألف ليلة وليلة طرابلسية، أو لدون كيشوت ليبي، أو لأي صنف يحاكي هكذا مصنوعات كلاسيكية عظيمة؛ بل لابتكار رحلة أبلغ أثرًا وأكثر شأنًا، لأن شهرزاد هذه المرة توشك على الغرق، كذلك دون كيشوت، صار هو الآخر قاب قوسين أو أدنى من حافة الضياع، فيما لم تعد أية أحرف صالحة لصياغة شبه جملة مفيدة، مما يحذو بالسرد ضرورة التخلي عن عبارة " بلغني أيها الملك"، كذلك عن مغامرات سيرفانتس. وهكذا بعد الإقلاع الإجباري عن آفة التدخين، والتخطيط لأكثر من رحلة خارج النوم؛  فكرتُ جديًا في تقطير العزلة على طريقتي، والعودة مجدّدًا إلى خانة الصفر، كمحاولة أخيرة لتدوير الفراغ؛على نحو أكثر جدوى. فقط : لعلّي أتعلّم  هذه المرة أنه في وسع جندي ما، في ثكنة ما، في شيخوخة ينهشها المرض، في صحراء بعيدة وجاحدة: أن يكونَ لوحده حشدًا ضخمًا يكتسحُ أرضَ التجارب غير هيّاب؛ ودونما تردد سيفتتح أرضًا جديدة، حيث أكثر من غيمة وكتاب، وشجرة تشير، وامرأة تنتظر . 
_________  
اسطنبول، شتاء 2017