وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 25 مايو 2016

خبز وكلاشنكوف

                                                                                                                                             مفتاح العمّاري








     قبل قليل كنت في شقتي الخانقة  أنتظر أصوات القذائف ، أنتظر عودة الماء والكهرباء وتغطية الهواتف وألعن المليشات واللصوص والجهل والمرض والفاقة  ، حيث لا شيء سوى الخوف والاستسلام لعبور الوقت . 
    حين غادرت الشقة كانت السماء ملبدة بغيوم طافحة بحمرة تكاد تختفي اثر غزوة الكتل الدخانية السوداء التي غطت الجو وحجبت النصف الغربي من سماء طرابلس جراء الاشتباكات المسلحة بين المليشيات . كانت خزانات النفط العملاقة تحترق منذ الليلة البارحة ، فتشبع الفراغ بروائح نفط وعفن وصباح مكفهر وجدران تتصدع وأجساد تتدافع من اجل الخبز . من بعيد رأيت طابور الفرن  يتفاقم  . المحال جميعها مقفلة والمدارس والأفواه التي لا تنبس ببنت شفة كما يقال . فقط ، تتدحرج في الفراغ بضع عبارات حذرة يتخللها الله ، باعتبارها الوحيدة المحايدة والمبهمة والقادرة على التنفس وهي تجرح الصمت بحذر ، " ربي يهدي العباد ويحفظ البلاد ". فيما لم يبق شيء من البلاد وعبادها إلا وتحطم . " الله غالب ، إن شاء الله خير " . عيون ترتعش في محاجرها خائفة وحذرة وموسوسة ،" ربي يحسن الخاتمة " بينما الخبز يتأخر ، والطابور يزداد طولا والتواء ، ويلتصق بجدران المحال المقفلة ، " إن صبرتم أجرتم " فيما أصداء القذائف لا تتوقف ، ولا شيء في العاصمة يدفع الناس للخروج من بيوتهم غير البحث عن الخبز والماء والشموع  والمحروقات. كل من يتحصل على نصيبه بعد طول انتظار من أرغفة الخبز يغادر بملامح ظافرة ، ويبدو أكثر نشاطا وثقة . أربعة أرغفة ضامرة ومشوهة وحارة تنفث وهجا وبخارا لتندس بخفة في كيس النايلون . أربعة أرغفة نقص حجمها وخفّ وزنها وتضاعف ثمنها ، بعد أزمة الدقيق والضمير والسيولة والحكمة والبنزين والشرف والأخلاق والكهرباء والقيم  . الحياة في طرابلس لم تعد صديقة وفية أو حتى عدوة واضحة ، بل صارت غامضة ووقحة يتعذر فهمها  .. محض جثة  تتعفن . تضاعف الاكتظاظ والاختناق داخل القطيع وبدأ التدافع يخل بالطابور ويتكدس أمام باب الفرن للوصول إلى نافذة صغيرة حفرت اضطراريا  في الباب الحديدي تشبه كوة زنزانة . لكن ما لبث أن استعاد الطابور بعض آدميته لحظة أن توقفت عربة دفع رباعي برز من صندوقها العاري مدفع ( ميم طاء ) . هبط منها مسلح شاب بشعر مسترسل وعينين ناريتين ، يحمل كلاشنكوف ، أطلق صلية رصاص في الهواء . وشتم الجميع ، فانتظم طابور طويل للرجال علي يسار باب الفرن ممتدا لصق الجدار  ، فيما طابور آخر للنساء أقل طولا من الجهة المعاكسة  . هكذا كان عليّ الوقوف دونما جدوى في طابور ليس له آخر ، يتحرك ببطء ، ويشعرك أن دورك أبدا لن يصل . أجل لن يصل دوري ، وأنت يا عزيزتي تعلمين جيدا كم أحبُّ أن أكون وحدي ، اقرأ ، أكتب ، أجتر أكداسا من صور الماضي ، أفكك أصواتها وأعيد ترتيبها كمادة تصلح للتكفير عن جريمة بقائي حتى الآن بلا معنى .
     قلت لنفسي : لا بأس ، سأروض أوقاتي على المزيد من التحمل والصبر ، فأربعة أرغفة ستصمد ليومين وربما ثلاثة . طالما العجوز تكتفي بالشوربة وحدها وعلب الزبادي والقليل من التمر . لكنني لم أجن من الخبز سوى رائحته المشبعة بالخوف والانتظار والترقب .

الضيّ هَرَبْ . قال عاملُ الفرن .