قبل قليل كنت في شقتي الخانقة أنتظر أصوات القذائف ، أنتظر عودة الماء والكهرباء وتغطية الهواتف وألعن المليشات واللصوص والجهل والمرض والفاقة ، حيث لا شيء سوى الخوف والاستسلام لعبور الوقت .
حين غادرت الشقة كانت السماء ملبدة بغيوم
طافحة بحمرة تكاد تختفي اثر غزوة الكتل الدخانية السوداء التي غطت الجو وحجبت
النصف الغربي من سماء طرابلس جراء الاشتباكات المسلحة بين المليشيات . كانت خزانات
النفط العملاقة تحترق منذ الليلة البارحة ، فتشبع الفراغ بروائح نفط وعفن وصباح
مكفهر وجدران تتصدع وأجساد تتدافع من اجل الخبز . من بعيد رأيت طابور الفرن يتفاقم
. المحال جميعها مقفلة والمدارس والأفواه التي لا تنبس ببنت شفة كما يقال .
فقط ، تتدحرج في الفراغ بضع عبارات حذرة يتخللها الله ، باعتبارها الوحيدة
المحايدة والمبهمة والقادرة على التنفس وهي تجرح الصمت بحذر ، " ربي يهدي
العباد ويحفظ البلاد ". فيما لم يبق شيء من البلاد وعبادها إلا وتحطم .
" الله غالب ، إن شاء الله خير " . عيون ترتعش في محاجرها خائفة
وحذرة وموسوسة ،" ربي يحسن الخاتمة " بينما الخبز يتأخر ،
والطابور يزداد طولا والتواء ، ويلتصق بجدران المحال المقفلة ، " إن صبرتم
أجرتم " فيما أصداء القذائف لا تتوقف ، ولا شيء في العاصمة يدفع الناس
للخروج من بيوتهم غير البحث عن الخبز والماء والشموع والمحروقات. كل من يتحصل على نصيبه بعد طول
انتظار من أرغفة الخبز يغادر بملامح ظافرة ، ويبدو أكثر نشاطا وثقة . أربعة أرغفة
ضامرة ومشوهة وحارة تنفث وهجا وبخارا لتندس بخفة في كيس النايلون . أربعة أرغفة
نقص حجمها وخفّ وزنها وتضاعف ثمنها ، بعد أزمة الدقيق والضمير والسيولة والحكمة
والبنزين والشرف والأخلاق والكهرباء والقيم . الحياة في طرابلس لم تعد صديقة وفية أو حتى
عدوة واضحة ، بل صارت غامضة ووقحة يتعذر فهمها
.. محض جثة تتعفن . تضاعف الاكتظاظ
والاختناق داخل القطيع وبدأ التدافع يخل بالطابور ويتكدس أمام باب الفرن للوصول إلى
نافذة صغيرة حفرت اضطراريا في الباب
الحديدي تشبه كوة زنزانة . لكن ما لبث أن استعاد الطابور بعض آدميته لحظة أن توقفت
عربة دفع رباعي برز من صندوقها العاري مدفع ( ميم طاء ) . هبط منها مسلح شاب بشعر مسترسل
وعينين ناريتين ، يحمل كلاشنكوف ، أطلق صلية رصاص في الهواء . وشتم الجميع ، فانتظم
طابور طويل للرجال علي يسار باب الفرن ممتدا لصق الجدار ، فيما طابور آخر للنساء أقل طولا من الجهة
المعاكسة . هكذا كان عليّ الوقوف دونما
جدوى في طابور ليس له آخر ، يتحرك ببطء ، ويشعرك أن دورك أبدا لن يصل . أجل لن يصل
دوري ، وأنت يا عزيزتي تعلمين جيدا كم أحبُّ أن أكون وحدي ، اقرأ ، أكتب ، أجتر
أكداسا من صور الماضي ، أفكك أصواتها وأعيد ترتيبها كمادة تصلح للتكفير عن جريمة
بقائي حتى الآن بلا معنى .
قلت
لنفسي : لا بأس ، سأروض أوقاتي على المزيد من التحمل والصبر ، فأربعة أرغفة ستصمد
ليومين وربما ثلاثة . طالما العجوز تكتفي بالشوربة وحدها وعلب الزبادي والقليل من
التمر . لكنني لم أجن من الخبز سوى رائحته المشبعة بالخوف والانتظار والترقب .
الضيّ هَرَبْ . قال
عاملُ الفرن .