مفتاح العمّاري
------------------------------------- نصف
الجسد .. نصف الموسيقى
(1)
لا بأس يا أمّي ، أنا بخير
، وما من شيء يزعجني ، غرفتي دافئة ، والطبيب حاذق والممرضة حنونة . ما من
شيء ، فقط سهوت الليلة عن تنظيف أسناني من
نتف الحروف الكسولة ، كأنّي سأدع العبارة التائهة رهنا بمخالب لهفتها، وكلّما وخز
الجوع مخيّلتي سألتهم الصور الضالة التي غفل عنها الصيّادون ، ،ثم سأفكّر في إيجاد
مخرج من هذا القتام الذي يجثم على صدري/ لعلّي أنقذ ما تبقى من كلمات ، بلا
أثر لهروبي /سيبحثون عني تحت سجف
الأشعار الغامضة وأقبية المجاز كأجمل أسير لتيه البلاغات وخيانة المعنى /سيفتّشون في قوائم الموتى و المعاجم
والموسوعات وسجلات الشرطة والسجون
والمستشفيات ،
وفي جميع محركات البحث التي في مواقع السماء / لكنهم لن يحصدوا سوى
المزيد من السراب ولن يعرفوا ما إذا كنت
من الشهداء أو المفقودين أو في عداد الأسرى /
سأنقرض تماما كأي دينا صور أو
خرافة تفسخت أجساد قاطنيها ، وغدت محض غبار من رفات لا اسم له ، غبار يتطاير حزنا كلما خدشت مشاعره معاول الأثريين / سأحرّض فاتنات
قصيدتي على غواية الجزر المجهولة .. في كل
جزيرة أرسم مملكة جديدة للخيال والمطر / وفي كل غيمة أعتق الأعشاب والأرانب والقصائد لتصلي على طريقتها /
سأترك أصابعي حرّة
ترقن زغب الفكرة دونما رقيب /
أترك ظلالي كلما خفقت أجنحة الرغبة تحلّق لاهبة ،
إلى أن يحطّ بها التعب فتغفو على صدر شرفة يحرسها قمر وفيّ .
لهذا أكتب الآن ما يتبادر
لذاكرة أصابعي من حمّى الساعة /
لم يبق لي غير القصيدة أغوي بناتها
بعد أن قفلت جميع أبوابي التي طالما استقبلت الضيوف والعابرين
وأبناء السبيل ، أبناء الصدف / أخوة
الرماد الذين أطعمتهم ثريد طوافي /
لم يبق غير هذا الرعيل من الأسرى الفارين خارج جحيمهم
، وهم يقفون على عتبة خروجي / لم يبق سوى
أن أهديكم هذا النثر الذي كتبته كيفما يريد / حادسا بأنّي سأتماثل قريبا لهزيمة
أورامي/ فلم يبق شيء أربّيه سوى النسيان / أريد أن أمحو الكثير
من الأنين ، وما فاض من عناوين الألم / لاشيء يخيفني الآن كما يخيفني نصفي .
لم يبق لي إلا الوقوف بكبرياء نافضا ما يغزو شراييني من حقن
وشكّ وصراخ .و إن يكن ما تبقى : نصف ظلّ يترنح .
يكفي نصف الجسد ، نصف
الموسيقى .
(2)
لم يبق لي إلا ّ أن أعلّق سترتي على مسمار القصيدة ،
وأجلس متـأهبا ألف ليلة وليلة أخرى بلا نوم
،
فقط أفكّر كيف أبرهن لسنة36 20 بأنني أكثر عنادا مما يتوقع الأطباء /
ولن ألتفت
للخمسين صيفا الماضية /
سأبدأ من صفر الحكاية أو من حكاية الصفر /
من طق ، طق .. حيث لا أحد غير مفتاح
العماّري داخل هذا النصف النادر من الجندي
المتروك على حافة منفى/
داخل ثيابي الوحيدة التي تتّسع
لفخامة الضحك /
سأحشد كل أسناني لرقن الحروف المنتظرة
لرقن الليل مخلوطا حتى حافته بلغة الحليب ...
لم
يبق إلا أن أرفع قصيدتي عاليا ، لتظلّ
مغوية مثل عاشقين في قارب ثمل ، وبسيطة
وحنونة مثل أمّي
بغض النظر عن هشاشة الضوء ،أو غشاوة البياض الذي
يترصد ظلمة الحكمة
سأتقدّم حاشدا الجوع
في مقدمة جيشي /
أطلق
النار على العروض دونما اكتراث
بثرثرة الحمقى .
وكلغم من الأظافر الذكية ، أمزّق جلد المعرفة/
(3)
تستيقظ شهرزاد أو تنام ، هذا شأنها ،
فسيان عندي أن تضأ نافذة في هذه الحكاية أو
تلك/
أن
تبتلّ سرّتها أو تجفّ /
أن
تترهل مخدتها بالدموع أو تتنفّج
بالآهات /
أن
تعطش أوردة ليلها أو تغرق في انهار من العسل
والمنّ والسلوى ..
أن
تنصفني حمّالة صدرها أو تشطر غيابي .
أن
تمتلئ قربة شهوتها أو تظمأ قريحة بريدها الالكتروني /
أن
تنشر غسيلها على شبكة الانترنت أو في
كراريس رسم الأطفال .
أن أجد امرأة تصلي لأجلي أو تمطرني
باللعنات /
سيان عندي أن يطلق عليّ النقّاد : شاعر
حداثة ، أو حذلقة
أن
تكتب القصيدة على طريقة الهايكو أو صوب
خليل /
أن تمدح الكلمات صمتها ، أو تنعي خيالها ،
فما من أحد سيلتفت لعبوري
سواء ثرثرت في المقهى أو ابتهلت مع المصلين في صحن الجامع /
أن ينادى على اسمي في محافل النجوم
أو في أقبية المرضى /
أن
أقف على أقدامي مجددا، أو أسجى في تابوت الخواتم /
أن أجد غيمة مقرورة في جيبي أو حمامة تنوح
بين أوراقي
أن استقبل التعازي في موت الشعر أو موت
الغابات /
أن
أكون مليونيرا أو شحاذا
أن
تعلن حالة الطوارئ ويحضر التجول في شوارع
النت
أو
في بريد المراهقات /
أن
يستغفل اللصوص حراس السماء ويسرقون الأمطار
والمجرات وقوس قزح ،
أن يكمن العيارون لقافلتي وينهبون الحلم والقطن والملح
والأوكسجين وطائرات الورق /
أن
يعترض قراصنة الأثير شاحنات المعنى /
أن تنتشر الفضائيات أو تختفي البحار من خارطة الشعر فجأة لتظل النوارس
والعصافير والأحلام عالقة في الفراغ
أن
أكون أو لا أكون في معاجم الشعراء والعشاق
أو حتى في معاجم الصعاليك و سجلات المواليد
...
أن أقيم
في قاع بئر ، أو على فوهة
بركان /
لا
بأس ..
عندي ما يكفي من السديم و خزائن الثريا .
(4)
لم يبق شيء يمكنه أن يكون صفة أو شطيرة خيال
أو قبلة تحتفظ برحيق مودّتها /
لا
شيء في السرير يزعجني غير نصفي.
لن أحتفظ بعد الآن بتفاحة في القصيدة أو وردة في كتاب مندّى /
ساترك أنامل حبيبتي لحبيبتي /
وفم عشقي للغبار .
..................................
هذه القصيدة لك يا شقيقة نومي ،
خذيها كي تطير
.
(5)
لم يبق سوى أن أبقى نبيذا لا أحد
/
لست أدري ، تاه
يساري ،
أو ضلّ يميني يا فقيدي لا احد /
لا
، لن أطرق الباب مرة أخرى ،
ودعني ، فلا أرى في ما أرى ، شرق ظلي /
تاه التفاح عن تيهي
وهذه الصحراء أضحت ضيقة على حلمي النحيل ،
وقصيدتي ، لا
.........
لا تحتمل قصيدتي جراحة أخرى .
________
مستشفى شارتيه . برلين شتاء 2009