وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

نصف الجسد .. نصف الموسيقى

مفتاح العمّاري


-------------------------------------     نصف الجسد .. نصف الموسيقى
(1)
       لا بأس يا أمّي  ، أنا بخير  ، وما من شيء يزعجني ، غرفتي دافئة ، والطبيب حاذق والممرضة حنونة . ما من شيء ، فقط سهوت الليلة عن تنظيف  أسناني من نتف الحروف الكسولة ، كأنّي سأدع العبارة التائهة رهنا بمخالب لهفتها، وكلّما وخز الجوع مخيّلتي سألتهم الصور الضالة التي غفل عنها الصيّادون ، ،ثم سأفكّر في إيجاد مخرج من هذا القتام الذي يجثم على صدري/ لعلّي أنقذ ما تبقى من كلمات  ، بلا  أثر  لهروبي /سيبحثون عني تحت سجف الأشعار الغامضة وأقبية المجاز كأجمل أسير لتيه البلاغات وخيانة المعنى  /سيفتّشون في قوائم الموتى و المعاجم والموسوعات  وسجلات الشرطة والسجون والمستشفيات ،
وفي جميع محركات البحث التي في مواقع السماء / لكنهم لن يحصدوا سوى المزيد من  السراب ولن يعرفوا ما إذا كنت من الشهداء أو المفقودين أو في عداد الأسرى /
 سأنقرض تماما كأي دينا صور أو خرافة تفسخت أجساد قاطنيها ، وغدت محض غبار من رفات لا اسم له ، غبار  يتطاير حزنا كلما  خدشت مشاعره معاول الأثريين / سأحرّض فاتنات قصيدتي على غواية الجزر المجهولة ..  في كل جزيرة أرسم مملكة جديدة للخيال والمطر / وفي كل غيمة أعتق الأعشاب والأرانب  والقصائد لتصلي على طريقتها /
 سأترك  أصابعي حرّة  ترقن زغب الفكرة دونما رقيب /
أترك ظلالي كلما خفقت أجنحة الرغبة تحلّق لاهبة ،
 إلى أن يحطّ بها التعب  فتغفو على صدر شرفة  يحرسها قمر وفيّ  .
 لهذا أكتب الآن ما يتبادر لذاكرة أصابعي من حمّى الساعة /
 لم يبق لي غير القصيدة أغوي  بناتها  بعد أن  قفلت جميع  أبوابي التي طالما استقبلت الضيوف والعابرين وأبناء السبيل ،  أبناء الصدف / أخوة الرماد الذين  أطعمتهم ثريد طوافي /
 لم يبق  غير هذا الرعيل من الأسرى الفارين خارج جحيمهم ، وهم يقفون على عتبة خروجي /   لم يبق سوى أن أهديكم هذا النثر الذي كتبته كيفما يريد / حادسا بأنّي سأتماثل قريبا لهزيمة أورامي/  فلم يبق  شيء أربّيه سوى النسيان / أريد أن أمحو الكثير من الأنين ، وما فاض من عناوين الألم / لاشيء يخيفني الآن كما يخيفني نصفي .
    لم يبق لي إلا  الوقوف بكبرياء نافضا ما يغزو شراييني من حقن وشكّ وصراخ .و إن يكن ما تبقى : نصف ظلّ يترنح .
 يكفي نصف الجسد ، نصف الموسيقى  .

(2)
        لم يبق لي إلا ّ أن أعلّق سترتي على مسمار القصيدة ،
وأجلس متـأهبا ألف ليلة وليلة أخرى بلا نوم ،
 فقط أفكّر كيف أبرهن لسنة36 20  بأنني أكثر عنادا مما يتوقع الأطباء /
 ولن ألتفت  للخمسين صيفا الماضية /
سأبدأ من صفر الحكاية أو من حكاية الصفر /
من طق ، طق .. حيث لا أحد غير مفتاح العماّري داخل  هذا النصف النادر من الجندي المتروك على حافة منفى/
داخل ثيابي الوحيدة التي  تتّسع  لفخامة الضحك  /
سأحشد كل أسناني لرقن الحروف المنتظرة
 لرقن الليل مخلوطا حتى حافته بلغة الحليب ...
 لم يبق  إلا أن أرفع قصيدتي عاليا ، لتظلّ مغوية مثل  عاشقين في قارب ثمل ، وبسيطة وحنونة مثل أمّي
 بغض النظر عن هشاشة الضوء ،أو غشاوة البياض الذي يترصد  ظلمة الحكمة
سأتقدّم حاشدا  الجوع  في مقدمة جيشي /
 أطلق  النار على  العروض دونما اكتراث بثرثرة الحمقى .
وكلغم من الأظافر الذكية ، أمزّق جلد  المعرفة/

(3)
تستيقظ شهرزاد أو تنام ، هذا شأنها  ،
فسيان عندي أن تضأ نافذة في هذه الحكاية أو تلك/
 أن تبتلّ سرّتها أو تجفّ /
 أن تترهل مخدتها بالدموع  أو تتنفّج بالآهات  /
 أن تعطش أوردة ليلها أو تغرق في انهار من العسل
 والمنّ والسلوى ..
 أن تنصفني حمّالة صدرها أو تشطر غيابي  .
 أن تمتلئ قربة شهوتها أو تظمأ قريحة بريدها الالكتروني /
 أن تنشر غسيلها على شبكة الانترنت أو في  كراريس رسم الأطفال .
أن أجد امرأة تصلي لأجلي أو تمطرني باللعنات /
سيان عندي أن يطلق عليّ النقّاد : شاعر حداثة ، أو حذلقة
 أن تكتب القصيدة على طريقة الهايكو  أو صوب خليل /
أن تمدح الكلمات صمتها ، أو تنعي خيالها ،
فما من أحد سيلتفت لعبوري
سواء ثرثرت في المقهى أو  ابتهلت مع المصلين في صحن الجامع /
  أن ينادى على اسمي في محافل النجوم  أو في أقبية المرضى /
 أن أقف على أقدامي مجددا، أو أسجى في تابوت الخواتم /
أن أجد غيمة مقرورة في جيبي أو حمامة تنوح بين أوراقي
أن استقبل التعازي في موت الشعر أو موت الغابات /
 أن أكون مليونيرا أو شحاذا 
 أن تعلن حالة الطوارئ  ويحضر التجول في شوارع النت
 أو في  بريد المراهقات /
 أن يستغفل اللصوص حراس السماء ويسرقون الأمطار
 والمجرات وقوس قزح ،
أن يكمن العيارون لقافلتي  وينهبون الحلم والقطن والملح
 والأوكسجين وطائرات الورق /
 أن يعترض قراصنة  الأثير  شاحنات المعنى /
أن تنتشر الفضائيات أو تختفي  البحار من خارطة الشعر فجأة لتظل النوارس والعصافير والأحلام  عالقة في الفراغ
 أن أكون  أو لا أكون في معاجم الشعراء والعشاق
أو حتى في معاجم الصعاليك و سجلات المواليد ...
أن أقيم  في قاع بئر ،  أو على فوهة بركان  /
 لا بأس  ..
عندي ما يكفي من السديم  و خزائن الثريا .

(4)
       لم يبق  شيء يمكنه أن يكون  صفة أو شطيرة خيال
أو قبلة تحتفظ برحيق مودّتها /
 لا شيء في السرير يزعجني غير نصفي.
لن أحتفظ بعد الآن بتفاحة  في القصيدة أو وردة في كتاب مندّى /
ساترك أنامل حبيبتي لحبيبتي  /
 وفم عشقي للغبار  .
..................................
هذه القصيدة لك يا شقيقة نومي ،
 خذيها كي تطير  .

(5)
        لم يبق سوى أن أبقى نبيذا لا أحد  / 
لست أدري ،  تاه  يساري  ،
أو ضلّ يميني يا فقيدي لا  احد /
 لا ، لن أطرق الباب مرة أخرى ،
ودعني ، فلا أرى  في ما أرى ، شرق ظلي /
تاه التفاح عن تيهي 
وهذه الصحراء أضحت ضيقة على حلمي النحيل ،
 وقصيدتي ، لا  ......... 
لا تحتمل قصيدتي جراحة  أخرى .
________ 

مستشفى شارتيه . برلين شتاء 2009