وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

جدّي

___________________________________________________________ مفتاح العمّاري


جدّي

(1)
    في حي سيدي عبد الجليل ، كنت أقتفي حلما صغيرا . لعل شغف الإصغاء إلى  جدي  الأعمى ، إلى حكاياته التي لم تكتمل ، إلى تنفسه ومشيته ، إلى إحساسي وأنا الطفل حين أن أرعى حشدا هائلا من الأساطير ، وأقود جبلا طيعا من المعرفة ، وأرى العالم من خلال بصيرة الأعمى ، من شكّل تلك الإشارات المبكّرة في إحساسي بالعالم ، العالم بتجلياته وأسراره . أتذكر عندما كان جدي يشفق علي من المسير وأنا أقوده من يده ، فيتقرفص منحنيا ، وهو أكثر إصرارا بأن أتسلق ظهره وأجلس على كتفيه تاركا ساقيّ يتدليان على صدره ، فيقف مستأنفا سيره ، بينما أدله على الطريق من فوق كتفيه ، كانت تلك صورة شبيهة بالسحر ، كان العجوز حنونا ، ومباغتا ، وصوفيا ،وواثقا ، ونحن نمشي أو نأكل أو نرعى النعاج ،وكلما أصغي إليه وهو يصلي أبدو أكثر تشبثا به ، كانت لحيته الكثة البيضاء مهيبة ، كان ثمة ضوء يبرق من تقاسيم وجهه الوسيم . يبدو لي أحيانا أكثر شبها بوجه نبي ّ ، لهذا كلما شرع أحد معلمينا في المدرسة يتحدث عن الرسل والأنبياء ، كنت استعيد ملامح جدي .
(2)
    الآن ، لم أعد صغيرا  يا جدي  بحيث لا أحمل سوى نفسي وحقيبتي المدرسية . فقد مضت تلك الترهات الرثة ببراءتها التي كنتُ خلالها لا أملّ من اجترار محاورة داخلي ، فما أن  تمر سيارة باهرة حتى أسأل : لماذا لا يملك أبي سيارة مثلها أو أية سيارة  حتى لو كانت  خردة ، وحين تقع عيناي على واجهة منزل جميل أكرر السؤال نفسه مستدعيا المنزل عوضا عن السيارة . كنت طفلا أيها الشيخ الأعمى ، لي خيالاتي النزقة وأمكنتي التي ما تزال حية  : دكان الدبصكي ، فرن الفزاني ، مدرسة الحميضة ، مزرعة شتوان ، كوخ الحاجة شميسة  ، مستوصف عباس، جامع بوغولة . ما زلت أتذكر ذلك اليوم   في منزل عمتي  ،حين  وقعت عيناي على مكتبة كبيرة ، كانت تلك المرة الأولى التي أرى خلالها حشدا مغويا من الكتب ، ولكم تمنيت أن تكون لأبي مكتبة مثل مكتبة زوج عمتي . أذكر أنني سرقت كتابا مصورا ، ولكن جريمتي قد اكتشفت بعد دقائق ، فلم أهنأ بغنيمتي ، بل نلت على أثرها صفعة على خدي من كفّ زوج عمتي ، مازالت حتى الآن تؤلمني  يا جدي  .  فلماذا لا نملك نحن منزلا جميلا و مكتبة  حاشدة بالكتب . ستقول لي ، بتمتمة رحيمة :  العاطي حيّ  . جملة لم أفهم معناها في ذلك الوقت ، وحين كبرت وجدت نفسي من حيث لا أدري مهووسا باقتناء الكتب ، التي أنستني حلم المنزل الفخم والسيارة الفارهة ، وكم تمنيت لو أنك ما تزال هنا ،لأحدثك عن مكتبتي وأقرأ عليك ما كتبت من حكايات وأشعار.

(3)
     أجل ، لقد كبرتُ يا جدّي ، صرت جنديا ، ثم رائيا أقترف بجسارة مسالك الكتب ، والعواصم والنساء والخرافات دونما رأفة بمعرفتي ، حتى تفشت الأورامُ بكائناتي  ، وغدوت حفنة من أحاسيس ضارية . اعترف يا جدي ، ودونما غضاضة  بأنني قد فُتنت وهذا مكمن ضعفي ، فتنتُ إلى الحدّ الذي تركتُ فيه نجوم الغواية تقودني حيثما شاءت، مستسلما بنشوة لا تضاهى ، لملائكتها وشياطينها ، متمهلا أو عجولا ، نائما ومستيقظا ، دائما أهتف المجد للنساء . لكن مهما حدث ، فأنا لا أعدّ معاركي الخاسرة سوى وجه مشرق يعكس مرايا الظفر ، فلطالما رفرفت راياتي معلنة عن انتصارها . أقول لنفسي : لا بأس أن ختلتني الحياة أخيراً ، وغدرت أورامها بجسدي الضعيف  . فمهما حدث  يا جدّي لا يسعني أن أكون غير ما أنا ، طالما ظلت المتعة طريقي التي لا فكاك لي من سلطة أسرها ، اجل فتنت ، واني على الرغم من كل جحافل الألم التي تغزوني الآن ،لا أتنصل من أخطائي وحماقاتي  بكل ما تشي به من مثالب  حميدة  كانت من صنعي . لهذا عليّ أن أكون سعيدا وأنا أحمل وزرها أينما ذهبت . ولا يسعني إلا اقتراف المزيد من الأخطاء والضحك .
¨