___________________________________________________________ مفتاح العمّاري
جدّي
(1)
في حي سيدي عبد الجليل ، كنت أقتفي حلما
صغيرا . لعل شغف الإصغاء إلى جدي الأعمى ، إلى حكاياته التي لم تكتمل ، إلى تنفسه
ومشيته ، إلى إحساسي وأنا الطفل حين أن أرعى حشدا هائلا من الأساطير ، وأقود جبلا
طيعا من المعرفة ، وأرى العالم من خلال بصيرة الأعمى ، من شكّل تلك الإشارات المبكّرة في
إحساسي بالعالم ، العالم بتجلياته وأسراره . أتذكر عندما كان جدي يشفق علي من
المسير وأنا أقوده من يده ، فيتقرفص منحنيا ، وهو أكثر إصرارا بأن أتسلق ظهره
وأجلس على كتفيه تاركا ساقيّ يتدليان على صدره ، فيقف مستأنفا سيره ، بينما أدله
على الطريق من فوق كتفيه ، كانت تلك صورة شبيهة بالسحر ، كان العجوز حنونا ، ومباغتا
، وصوفيا ،وواثقا ، ونحن نمشي أو نأكل أو نرعى النعاج ،وكلما أصغي إليه وهو يصلي أبدو
أكثر تشبثا به ، كانت لحيته الكثة البيضاء مهيبة ، كان ثمة ضوء يبرق من تقاسيم
وجهه الوسيم . يبدو لي أحيانا أكثر شبها بوجه نبي ّ ، لهذا كلما شرع أحد معلمينا
في المدرسة يتحدث عن الرسل والأنبياء ، كنت استعيد ملامح جدي .
(2)
الآن ، لم أعد صغيرا يا جدي
بحيث لا أحمل سوى نفسي وحقيبتي المدرسية . فقد مضت تلك الترهات الرثة ببراءتها
التي كنتُ خلالها لا أملّ من اجترار محاورة داخلي ، فما أن تمر سيارة باهرة حتى أسأل : لماذا لا يملك أبي
سيارة مثلها أو أية سيارة حتى لو كانت خردة ، وحين تقع عيناي على واجهة منزل جميل أكرر
السؤال نفسه مستدعيا المنزل عوضا عن السيارة . كنت طفلا أيها الشيخ الأعمى ، لي
خيالاتي النزقة وأمكنتي التي ما تزال حية :
دكان الدبصكي ، فرن الفزاني ، مدرسة الحميضة ، مزرعة شتوان ، كوخ الحاجة شميسة ، مستوصف عباس، جامع بوغولة . ما زلت أتذكر ذلك
اليوم في منزل عمتي
،حين وقعت عيناي على مكتبة كبيرة ،
كانت تلك المرة الأولى التي أرى خلالها حشدا مغويا من الكتب ، ولكم تمنيت أن تكون
لأبي مكتبة مثل مكتبة زوج عمتي . أذكر أنني سرقت كتابا مصورا ، ولكن جريمتي قد اكتشفت
بعد دقائق ، فلم أهنأ بغنيمتي ، بل نلت على أثرها صفعة على خدي من كفّ زوج عمتي ،
مازالت حتى الآن تؤلمني يا جدي . فلماذا
لا نملك نحن منزلا جميلا و مكتبة حاشدة
بالكتب . ستقول لي ، بتمتمة رحيمة : العاطي
حيّ . جملة لم أفهم معناها في ذلك الوقت
، وحين كبرت وجدت نفسي من حيث لا أدري مهووسا باقتناء الكتب ، التي أنستني حلم
المنزل الفخم والسيارة الفارهة ، وكم تمنيت لو أنك ما تزال هنا ،لأحدثك عن مكتبتي
وأقرأ عليك ما كتبت من حكايات وأشعار.
(3)
أجل ، لقد كبرتُ يا جدّي
، صرت جنديا ، ثم رائيا أقترف بجسارة مسالك الكتب ، والعواصم والنساء والخرافات
دونما رأفة بمعرفتي ، حتى تفشت الأورامُ بكائناتي ، وغدوت حفنة من أحاسيس ضارية . اعترف يا جدي ،
ودونما غضاضة بأنني قد فُتنت وهذا مكمن
ضعفي ، فتنتُ إلى الحدّ الذي تركتُ فيه نجوم الغواية تقودني حيثما شاءت، مستسلما بنشوة
لا تضاهى ، لملائكتها وشياطينها ، متمهلا أو عجولا ، نائما ومستيقظا ، دائما أهتف المجد
للنساء . لكن مهما حدث ، فأنا لا أعدّ معاركي الخاسرة سوى وجه مشرق يعكس مرايا
الظفر ، فلطالما رفرفت راياتي معلنة عن انتصارها . أقول لنفسي : لا بأس أن ختلتني
الحياة أخيراً ، وغدرت أورامها بجسدي الضعيف . فمهما حدث يا جدّي لا يسعني أن أكون غير ما أنا ، طالما
ظلت المتعة طريقي التي لا فكاك لي من سلطة أسرها ، اجل فتنت ، واني على الرغم من
كل جحافل الألم التي تغزوني الآن ،لا أتنصل من أخطائي وحماقاتي بكل ما تشي به من مثالب حميدة كانت من صنعي . لهذا عليّ أن أكون سعيدا وأنا
أحمل وزرها أينما ذهبت . ولا يسعني إلا اقتراف المزيد من الأخطاء والضحك .
¨