وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

السبت، 5 ديسمبر 2015

حجاب

مفتاح العمّاري

     ليس من الإنصاف في شيء  لحظة أن تكون مجهولة  ملامح وأسماء وجهات وخرائط وعناوين من تصطفيه دون غيره لتقاسمه أوقاتك وتبثه مشاعرك ، وتشاطره ذاكرتك ودروبك وحكاياتك وخبزك وبهجتك ودموعك وملحك وكل أوجاعك . عندما تتكلم بلغة ناصعة ونقية مع شخص ينظر إليك من شق الباب أو عبر ثقب ما، شخص يراك بيّناً وجلياً ، بينما  لا تبصر منه سوى ما تقترحه الكلمات من إيحاءات و ألوان وأصداء يظلُّ يقينها نهباً لمعاول الشكّ . ولعله رغم ما تنطوي عليه مفارقات هذه  الصورة السوداء من إحساس مجحف بالقساوة والظلم لحظة أن تكون معلوما ومعلنا ومتجليا إلى أقصى درجات الشفافية والوضوح  لكائن متستر ومجهول يستمرئ معك لعبة الخفاء والإضمار والتكتم .. أن تنفتح على المغلق وتنكشف إزاء المحجوب والمندس ، عباراتك تتدفق عارية، تاركة مضانها ودلالاتها ومصبّاتها تنساب نظيفة ومعلنة وبريئة وواضحة في بؤرة الضوء بينما يتوارى شريكك  خلف سجف العتمة،  وهو يتجاذب معك أطراف الكلام  ، حيث يتاح له رصد إيماءة عينيك ، وارتعاشه شهقتك وامتقاع ذاكرتك  وهفهفة خيالك ، واستعراض تاريخك وجغرافيتك ومعتقداتك وهوسك وجنونك ، وحتى ألعابك البريئة  وأثاث غرفة نومك ،وإكسسوارات حمامك  وكل شيء يخص قامتك المفضوحة ، من أخمص قدميك إلى  قبعة سمائك ، ومن مهدك إلى لحدك ،بينما يتعذر عليك اختراق ظلال صورته المشفوعة بطغيان قتامتها ، لتجد نفسك رهنا بعثرات النظر، متلبكا ومرتبكا و عاجزا عن  اقتفاء اثر الصوت ، وحدس صداه المظلم الذي يدور تبعا لنزوات التورية ، ومجازات التكتم ، وتقلبات طقسها المريب ،ودورة فصولها الغريبة ، محاولا الإصغاء لنبرة الكلمات مستنفرا نباهة أذنيك لكي تسعفك على رسم ملامح محدثك ، مكرسا خيالك لحشد من السمات التي تتزاحم دونما جدوى ، مستشعرا في داخلك قساوة لحظتك الظالمة  حين تتعطل بقية حواسك ويختزل كيانك بهيئة أذن صاغية ، فيما ينعم من يبادلك الكلام بإطلاق حواسه كلها ، حيث يبصرك ويسمعك ويتحسس تضاريسك ويشمّ رائحتك .
     ستشعر في دخيلة نفسك بأن هكذا حوار بين التجلي والخفاء لن يكون عادلا أو متكافئا عندما تظل أجهزة حواسك على هذا النحو من الغبن ، بينما يحوز الطرف المقابل على مفاتيحك ومحفظة أسرارك وأجندة عواطفك وأرقام هواتفك . لكن عندما يكون مجهولك هو يقينك الوحيد والممكن الذي وهبته لك حظوظ الصدفة الأم ، واللحظة المستحيلة التي لا تتكرر إشاراتها دائما بنفس الإعجاز، عندها ستحمد العناية راجيا أن يظل خفيك خفيا ومجهولك مجهولا ، لأن فاجعتك قد تنقلب إلى واقع أبلغ عنفا ومرارة لحظة أن تنكشف لك حقيقة محدثك ،فحينها قد تفقده إلى الأبد ولن تجد بديلا تصطفيه لمشاطرتك الخبز والكذب  والشجار والحليب والسفر والدموع والأحلام .
___
طرابلس 11ديسمبر 2007