وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 12 نوفمبر 2015

مجرد حلم وحكايات أخرى *

مفتاح العمّاري


غواية السرد بين الكتابة والكلام










   ثمة افتتان شديد الغواية ما انفكت    الحكاية على مدار التاريخ تحظى به ، ولا سيما عندما تتخذ من الحيوانات وسائط سرد  تجعلنا أكثر انجذابا ودهشة وإصغاء ..هذا الإغراب الفني تتكفّل بتصعيده عدة وسائط ، بينها الوسيط السردي ( أنسنة الحيوان )  الوسيط المتلقي داخل الحكاية نفسها ،  كسلطة خفية ( دبشليم ملك الهند ) :  كليلة ودمنة ، ( الملك  شهريار ) ألف ليلة وليلة ، الوسيط القاصر : المخبول / الطفل . 


          تأسرنا الحكاية باعتبارها  قد ارتبطت منذ نشأتها بالشفوي ، واكتسبت تشكّلات سمعية ووظائف صوتية ذات نبر إيقاعي وهبها سحرا مضاعفا ..  وهو ما لم يتوفر عادة في السرد المكتوب الذي يتوخي التأمل في سحر المعنى لا سحر الصوت  . أي أن فعل الكتابة ، كأصالة أعجاز جوهره اللغة المكتوبة لا المنطوقة ، يأخذ على عاتقه –بالضرورة - إعادة إنتاج الشفوي في قالب سردي ، ليتحقّق كمتطلب جمالي  بتحقق عملية التأويل  : تأويل الحكاية ضمن شرطها الخاص بها ، كذلك تأويل عالمها الممكن والمتخيّل ، داخل فضائها ( الزمكاني واللغوي ) ، حيث يتعين على السرد أن يكتسب تلك الخصائص الأسلوبية التي تجعله حياً ونابضاً ، يستدرج  تعدّد القراءة ، تعدّد الصوت ، وتباين زاوية النظر ، وتنوّع الرؤى ، وهنا تستمد المتعة من تحقق خاصية  التجاور بين الشفوي والمكتوب . كذلك من التصادم بين التناص والتأويل /القراءة وإعادة إنتاج المقروء ، وهي مسألة رغم بصيرتها ، غالبا ما تدخل في مناطق مظلمة،  يتعذّر أحيانا حتى  على  القارئ الدربة  رؤية تفاصيلها والدنوّ من  مضانها وكشف خباياها .. وذلك خلافا لأنساق الحكاية في قماشتها الشفوية التي  تأنس قدرا من الوضوح والتبسيط  يصل إلى حدّ السذاجة . فللحكاية منطقها الخاص بها ، و هنا ،نتوقف لإبداء بضع ملاحظات ، حول إسهام الكاتب ( سعيد العريبي ) في باكورة إنتاجه القصصي الموسوم ب ( مجرد حلم وحكايات أخرى  ) الصادر ضمن منشورات مجلة المؤتمر (صيف 2006).. وقد تضمن إضافة إلى القصص ، أو الحكايات تعقيبات وملاحظات شارك فيها كل من : محمد البشير / ليانة أبو صالح / عبد الرسول العريبي / نعيمة محمد , وتفيد إشارة المؤلف بأنه سبق نشر  قصص هذه المجموعة ضمن ( موقع القصة العربية ) على الانترنت .. كذلك ثمة عبارة توضيحية  تسبق العنوان وردت في الغلاف الداخلي ، هي ( كتابة معاصرة لقصص الحيوان ) . ومن معاينة عتبات السرد ، نلاحظ أن المؤلف لا يحفل  بتلك المفاتيح التقليدية التي تفتتح بها الحكاية في تراثنا العربي ، كما هو الحال في ألف ليلة وليلة ، أو كليلة ودمنة .   بل نراه يستأنس عتباته بعبارات مثل ( لم يعد سيد الدجاج سيدا للدجاج / ذات يوم من أيام الله المشرقة / تسلل اللصوص تحت جنح الظلام / في يوم من أيام الربيع المشمسة / ذات ليلة موغلة في البعد / لم يطلب القرد الطموح جدا من أحد .. الخ ) مقتفيا  الأثر باحتفاء خجول ، على هدي خطى النيهوم ،  لتلتمس حكاياته  نهجها بوفاء معلن ،  حيث يضعنا مباشرة  ومنذ البداية إزاء  حكاية ( المؤذن ) ، حكاية الديك الذي " تخلى بكامل إرادته عن مزاولة مهنته الشريفة ، وقرر الانسحاب إلى الحظيرة  "  وهي  على الرغم من قصرها نجدها تختتم   بحفلة بكاء مع  اللجوء إلى وصفة  النوم . وخلاصة الحدوثة ، مفادها أن ديكا قد تخلى عن دوره في إيقاظ الناس ، هذا كل شيء . يهديها الكاتب إلى شهداء انتفاضة الأقصى . وكأن  الإهداء عتبة دخول للمعنى ، وسراج بوابة  يضيء عتمة النص ،  أقحم عمد ا – مع سبق الإصرار والترصد -  ليكون جزءا لا يتجزأ  من نسيج الحكاية ، ويضعنا من ثم  وجها لوجه حيال مفارقة الأمة الغارقة في النوم ، بينما أطفالها يقاتلون ،  ولعل المؤلف – قد استأنس -  تثبيت  مثل هذه الإشارات تعمّدا ، كي لا يتوه المتلقي عن  وظيفة حكايته ، تبعا لحمولتها الوعظية . أوكأنه  قد حرص أن يفكّر هو عوضا عن حيواناته ، التي بدت تتحرك وفق مشيئته ،  من دون أن  يعتق مخيلتها لكي تواجه مصيرها الغامض ، أو أن المسألة برمتها لا تعدو عن رسم بعض المشهديات الساخرة ، بحيث تظل الحيوانات مجرد خلفية قدّت من كائنات كرتونية ، لا مجرد حلم ، الأفق المنتظر الذي وسم به غلاف المجموعة  . الحكاية الثانية ( نهاية ملك ) تقول " ذات يوم من أيام الله المشرقة  .. وبينما كان ملك الغابة  يستطلع الأرجاء من عل ويدير شؤون رعيته  زلت قدمه  فتدحرج على حين غرة  باتجاه القاع .. تشبث قي بداية الأمر بحجر  ناتئ ... أمسك بكل قوته طالبا للنجدة .. نظر إلى قرار الوادي السحيق  ، فأدرك أنه ميت لا محالة ، ما لم يتكّرم أحد أفراد رعيته ويمدّ له يده  أو حتى ذيله لمساعدته وانتشاله من وهدة السقوط المريع ". غير أن استغاثة الملك لم تجد أي صدى لدى الفيل والثور اللذان مرا مرور الكرام من دون أدنى التفاتة للملك الذي يشرف على الهلاك  . تضيف الحكاية  ،  " ورأى الملك الحمار يمشي مزهوا متبخترا .. فاستبشر  خيرا  .. لكن الحمار  الذي أدرك أنه الآن أضعف من أرنب برية  .. وأنه بعد قليل هالك لا محالة  وقف ثمة ينظر إليه باحتقار وتشف  "  وهكذا لم يفوت الحمار هذه السانحة  التي انتظرها طويلا  ، " وهبّ كالمسعور إليه .. لا ليمد  له ذيله لمساعدته .. بل ليعالجه برفسة  قوية " . وتُقفل الحكاية بهذا التعليق ، كلحظة تنوير  " وعاش الحمار بعدها مرفوع الذيل والرأس معا " .  في قصة " مقالب أبي الحصين " وعلى الرغم من الإشارة الصريحة إلى توظيف  إحدى حكايات ( كليلة ودمنة ) والتي جاءت في سياق بنائية  حوار مسرحي ، يشي ببعض هموم كائنات الغابة ، خلفية الحكاية . أي انه لم يحفل بإعادة إنتاج الحكاية ضمن نسق تأويلي ، يذوّب دلالاته داخل نسيج السرد ، مسهما في نمو الحدث وتطور الحكاية ، فقط تكتفي مسألة التوظيف هنا بالتنويع على سلالة قديمة من دون أن تفلح في إعادة خلقها .  وان يكن قد أراد الكاتب  من جهة أخرى اللجوء إلى  الصدف النادرة وتلك الجغرافيا التي تتسع لإيواء كائناته المسلوبة الإرادة .. بحيث لا نستغرب ذلك الصراع الذي يدور بين النوارس والذئاب ، من دون أن تتوفر تلك الدوافع والمحرضات  التي في مكنتها أن تجعل طائر النورس ( النورس المتمرد )  يتخلّى عن طبيعته لكي ينتهي على تلك الطريقة المأساوية ، وقد اختار حتفه ببسالة عجيبة .  لكن وعلى الرغم من ذلك قد توفر لدى الكاتب حيز لا بأس به من الحنكة والذكاء ، في أن يجعل بعض الحكايات تسير على نحو مؤثر ، في تصعيد جملة من المفارقات الطريفة رغم أحداثها المأساوية ووقائعها الدامية ، لحظة أن يتبوأ القرد سدّة الحكم ( مجرد حلم )  ، أو يتفوق الحمار على حيل الأسد والذئب ( رحلة صيد ) . وكل ذلك توخيا لخدمة الموضوعة ضمن حيزها الشفوي لا الكتابي . فلا تكشف لغة السرد  هنا عن قدراتها وإمكاناتها الفنية ، ولا تلعب أي دور سوى أنها لغة خبرية موصلة ، بحيث تقتصر وظيفتها فقط على توصيل الموضوعة الوعظية بأمانة متناهية . ومن ثم ندرج الحيوان تحايلا كوسيط سردي ، وتقترح أيضا وساطة  المتلقي عبر إيقاظ ذاكرته وتحفيز مخيلته ضمن حالة إيقاظ الحكاية المتوارثة ، ساعية إلى استنفار خزين التلقي لأن الحكاية تحيل دائما إلى رحمها  ، والتناص مع نفسها ، وفيّة لرموزها وإشاراتها وقوالبها الثابتة  داخل ثنائية الخير والشر .هذه المستويات جميعا  تتستّر بفكاهة بالغة الإغواء ، وبلذاذة  مضمرة ومعلنة في آن ، لأن الكاتب بقدر ما يتوخى الوضوح والتبسيط والإبانة ، هو في الوقت عينه يخفي قدرا من العمى والغموض ، مما يقتضي أعمال البصيرة . كذلك تنطوي الحكايات عند سعيد العريبي على درجة عالية من السخرية ، تصل أحيانا إلى حد التبسيط ، وهي كما سبقت الإشارة تعمل تحديدا على تكريس آلية التهكم  لتصعيد الغائي وظيفيا ، منشغلة بخدمة موضوعها الوعظي أو الإرشادي ، على حساب الفني : خدمة اللغة  ، التي لم تفلح تلقائيتها وانسيابيتها السلسة والناعمة في بلورة دلالاتها فنيا ، وظلت ( غير معتنى بها ) ، قريبة الصلة بلغة الصحافة السيّارة ، التي تنحاز غالبا إلى معالجة المضامين لا الأشكال ، أي أنها تعوّل – دون مواربة -   على تقديم وظائف اجتماعية وسياسية وأخلاقية ، مهملة التوقف عند جمالية الكتابة  كعملية إبداعية تقتضي بداهة إيقاظ خفايا اللغة السردية وتوليف تراكيبها بصورة فنية تطمح إلى الخلق والإضافة . ولعل مثل هذه المثالب  ناتجة عن ميل المؤلف نحو التبسيط .. وهنا نتفق مع وجهة نظر أوردها " محمد البشير " في معرض قراءته النقدية ، يؤكد فيها أن " أسلوب العريبي يتميز بالسهولة المفرطة  ، فلا استخدام لمنمّق الكلام  ، ولا وجود للبديع اللفظي ، وهذا ما يعاب على سالك الأدب ، فالاعتناء بالبناء اللغوي  له مكانته في استحسان القول "  الأمر الذي  جعل من  نسيجية حكايات ( مجرد حلم ) تفتقد إلى حلم الإبداع ، وتمسي  أكثر تشابكا مع الشفوي ، بغض النظر عن التماثل السطحي ، نشير هنا إلى بناء وتنضيد بعض  حكايات المجموعة انطلاقا من مقولة مأثورة أو عبارة حكمية ، حيث استمرأ  العريبي لعبة التنويع على الدلالة والعبرة المستقاة من المثل أو الحكمة ، محاولا تفصيل بعض الوقائع المقترحة كوسيلة ايضاح تتخذ من المأثور ، وعبارته الحكمية  محورا ارتكازيا تنبني عليه الوقائع ، و لحظة تنوير تختتم بها الحكاية ، مثل عبارة ( الدنيا مع الواقف ، لو كان حمار ) ، حكاية " رحلة صيد " ،  وعبارة ( هنا يرقد الضمير ) في حكاية " الذئب  " . كذلك  نلمّح إلى مستوى التناص مع إسهامات النيهوم ( القرود/  الحيوانات ،  الحيوانات ) وهو  تناص يمس السطح لا الجوهر ، إذ تتوقف غوايته عند حدود التأثيث اللفظي واللعب أحيانا على الفضاء ، كما هو الحال في قصة النورس المتمرد ، الذي تتجلّى فيه تأثيرات النيهوم بوضوح معلن . وعلى الرغم مما يعتور هذه المجموعة من مثالب فنية لمّحنا  بشكل عابر إلى بعضها ، تظل تحتفظ بتوقها في التخلص من التباس الشكل بين القص والحكي ، أي بين الكتابة والكلام ، لتصل إلى تلك الطاقة الوجدانية التي تهب الخلق الأدبي طبيعته  الحارة ، من خلال القبض على اللغة الحية التي تبثّ الروح في الكائن الذي من كلمات تتنفس . هكذا يكون الإبداع ، وهكذا تتحقق الإضافة .. إضافة جديدة  للحياة ، و للغة التي تستمد بقائها من بقاء الكتابة لا الكلام .