مفتاح العمّاري
2
أجل : عندما لا تعثر عَلَيَّ
الكلماتُ ، أنا ضائع . الكلمات التي كانت في يوم ما تناديني ، لم أعد الآن اسمعها كما
كنت قبل أن ينهار جسدي ، حيث كل شيء تحت أصابعي يتحول إلى كلمات ، كل شيء: المتحرك
والساكن والعصيّ واللين ، النساء والأحلام والطعام والمدن والبحار والأصدقاء / كل
شيء : التاريخ والحكمة ، وسفر الأنبياء، والجنود
، ولغة الرياح ، والظلال ، وقداسة العزلة
.
<><>
رائحة الخوف تصّاعد من خطواتي ، بينما أقطع
الشارع بصعوبة ، مرتابا وحذرا من تهور السيارات المسرعة ، أضرب الإسفلت بوهن صوب
الضفة الأخرى ، حيث تربض حديقة ميتة ، كانت في يوم ما سجنا ، يسمى بورتا بينيتو . فيما
طلقات الرصاص تحدث ضوضاء حدّ التقاطع . فيما الثوار المتربّصون فوق عربات الدفع الرباعي
، حاملات المدافع الرشاشة لا يكفون عن إطلاق نيرانهم الطائشة ، فيما ثلة زرازير
تجفل بكثافة لا أثر لها ، فيما أصوات تكبير ترتفع
. كنت كهلا ، وعليلا أمشي بوهن دونما إثارة أيما شك في كوني محض ظل يتعثر .
فما من أحد هنا ، يمكنه الإصغاء لروحي . أنا نكرة . حتى العجوز أمي ، بعد اعتلال
جسدي ، صارت تزدريني . فلطالما دللتها
واحتفيت بها . جلبت لها اللوز والرمّان ، والجوافة التي تحبّ . كان ذلك قبل أن
تتهدّم أركاني . حتى أننا لا نلمس درهما
واحدا من معاش العجوز الضماني . أمّا الآن ، وقد تحزّبت الصحف وتمذهبت الإذاعات ،
والتي على كثرتها لا تقيم وزنا للأدب ومريديه . ضاقت اليدُ وغابت الحيلة ، إذ غدا
المجال نهباً للمتسلقين من دهاقنة السياسة . هم وحدهم من يهيمن الآن على المشهد
. وبذا لا مناص من الاتكاء على معاش
العجوز . كانت هذه حلقة الضعف التي جعلتني
أستجيب أخيرا لذلك الخبر المتعلق بتعويض المحاربين القدامى ، الذين زجّ بهم في حرب تشاد .
<><>
من بعيد ، بانت واجهة مقر المنظمة . هناك حيث
شجرة التوت . الزحام على أشده . وكلما
اقتربت أكثر ، بات من المتعذر ، محض التفكير في اختراق الحشد الصاخب والمتهالك
بعنف ، دونما انتظام حول شباك ضيق ، بالكاد يتيح رؤية رجلين غاضبين ، كانا يرتديان
سترات عسكرية مرقّطة، ولا يكفان عن تعنيف القطيع المتدافع بمناكب عشواء .
كم آلمتني رؤية سحناتهم المدبوغة بعراء
الفاقة ، وأيديهم الخشنة ، المتصالبة والمعروقة وهي تتحفّز هائجة ، أو تتعلّق
بقضبان النافذة الحديدية ملوحة بأوراق مجعلكة ، لكي يتاح لأصحابها تسجيل أسمائهم
ضمن قوائم المحاربين القدامى في تشاد ولبنان وأوغندا وغيرها من مناطق الشؤم ، لعلّهم
يظفروا أخيرا ببطاقة تعريف تثبت رسميا ، كونهم من متضرري تلك الحروب التي خاضوها
رغما عنهم . يا الله هل يكفي أن يكون
المرء جريرة جور ، ومنجم إجحاف ، وصناعة غبن وجهل ومرض وخديعة ، لتنصفه الأقدار بعد
لأي ، بصفة الضحية . دلّني أحدهم على لوحة إعلانات ، أُسندتْ بإهمال حدّ الحائط ، على
يمين باب المقر المقفل . دونت في مفكرة جيب أسماء الوثائق المطلوبة ، وعدت أدراجي
خائبا ، أفكر فيما سأقوله للعجوز ، والتي تظن بأنني سأقبض تعويضا ماليا مجزيا ،
حال مثولي أمام اللجان المختصة .
<><>
عندما شرعت في كتابة : ثلاث نملات تعبر كتابا
، كنت أغادر نومي وأنا أفكّر في الحياة وحدها التي يتعين عليّ إنقاذها .
لدواع كثيرة ، من بينها مكابدتي الطويلة للمرض ، وأن ما يحيط بي أمسى مشرعا على خراب
مفتوح . لعل هذا ما يسمّى بالفوضى
المستدامة . وأن الموت وحده هو ما يكتسح عناوين الوقائع في هذا الوطن . لذا تعذّر
هنا ، إفشاء كل شيء ، كما ترتّب على الكلمات أن تكون أكثر تمهّلا وحيطة ، وهي تروز ما يقال . ليس خوفا ، أو تحفّظا ، أو
خشية فضيحة ، إنما تحاشيا لتطفّل الغثاثة ، لحظة ثمالة المخيلة. ولأنني لست بالسارد
الدربة ، بل محض منقّب هاو ، وحفّار ذاكرة يبحث عن نفسه ، قد اقترحت هذا التربّص ، بالقدر الذي يتيحه التحايل على مقتنيات السرد
وآلة الراوي ، مستأنسا بين وقفة وأخرى ،
التزود بكثافة الشعر في محل السرد . هذا ما تبدّى حين نذرت مخيلتي لاستدعاء تلك الصور والحكايات التي تتعلق
بتقاليد الثكنات . فيما لم تكن طرابلس في الواقع سوى ثكنة . لذا كتبتُ ما كتبت ،
فقط كمحاولة لإعادة تأثيث المباد من
الذاكرة المهجورة ، من الإنسان الذي تخلى
عن وجدانه بدءا من تلك اللحظات التي شهدت
نزوح الشعر عن مضارب اللغة . ربما لأن الوجدان صار منبوذا .. وما الحياة في
هذا الجزء من العالم ، سوى بهيمة تتمرّغ .
¨
____
*مقطع 2 من سردية : ثلاث نملات تعبر كتابا
.