مفتاح العمّاري
إلى ابنتي : لينا
بمناسبة اختفاء كراسة الرسم .
في مدينة ما ، عندما انتهتْ طفلةُ العامين من تلوين ورقة الرسم . غمرتها
بهجةٌ شاسعة وهي تُضفي على مخلوقاتها بلمسات ناعمة آخر آيات الضوء .. حيث تبدّى
منزلٌ ريفيّ مصبوغ بطلاء لامع كأنّه خليط من نثار ذهبٍ وشمس وموسيقى .. أحاطته
الفرشاة بقوس قزح وحديقة بهاء تجلّت مثل رحم أخضر نُسج من نباتات فتنةٍ تسامت أزاهيرها البنفسجيُّة والبيضاء والحمراء
مشرئبة بعلوّ تجاوز سطح المنزل إلى سماء شفيفة تمازجت زرقتها مع موج دافق لبحر
متخف .. وغناء كائنات منذابة في سيولة حواس مرحة .
ولكن بعد حين .. .. .. ..
بعد أن اختفت أكداسٌ من ساعات رملية تحطّمت عقاربُها دونما هوادة على
جلمود الوقت – لم يخطر في خيال الفنانة الصغيرة بأن لوحتها تلك ستتمزّق بفعل قساوة
البشر وحدهم الذين جبلوا على وأد براءة الكائن .
- فَلاَ المنزلُ الريفيّ وهو يحلّق عالياً في فضاء الروح بفخامة طائر
خرافيّ..
وَلاَ الأمُّ العليلةُ التي استعارت الغيومُ ضحكتها بهيئة قوس قزح ..
ولا الحديقة التي من لحم طريّ وعشب بهيج وأحرف تائقة ..
ولا مهابة السماء المبلّلة برضاب القلب وهفهفة الخيال ......
كان في مكنتها جميعاً إيقاف آلة الأذى ، وهي تنشبُ براثنها الدّامية
في كائنات النّسغ المقدّس، لتمزّق الأحلام الناشئة في مهدها . هكذا كانت ضراوة الواقع أكبر من أن تحتملها
ورقةُ رسم .
لأنّ الطفلة عندما كانت تنمو .. .. ..
كان الوحشُ هو الآخر يحملُ في داخله قوارض من فولاذ وفئران نهمة عوضاً
عن الفراشات والعصافير وقوس قزح .
حينها تكسّر شيءٌ ما في
أحشاء الفتاة الخائبة التي كانت قبل قليل طفلة العامين ، وأدركت بعد لأي أنه لا
موطن هنا يمكنه إيواء البراءة في هكذا بيئة استمرأت صناعة الوأد ، وصهر جميع
الألوان من لدنّ قصيدة تُذبح . حيث يتعذّر على شغف فرشاة الرسم استعادة تشكيل
أسماء الطبيعة وإشارات الكون وإيماءة الكواكب والأبراج بخامات دامية ، كما يتعذّر
على اليد الواجفة أن تغمس أدواتها في آنية النزيف .. فتوقّفت بمشيئة الخيبة عن
فكرة رسم العالم . منذ تلك البرهة المقيتة
اختفت ملامح مدينة بيضاء خلف ظلال الرصاص ، وانحدرت دمعةٌ حارة استقرت على
صفحة ال ( فبريانو ). ففقدت جميع مخلوقات اللوحة عناصر
بهائها، ولم يعد ثمة أحد من الرعايا يظنّ بوجود آلة من وترٍ أو قصب تعزف الموسيقا
.. إذ اختفى المغنون والشعراء والحكماء ، وضاعوا في أقاصي مفازات الحكاية الغامضة
لاسيما بعد أن أقفلت جميع أبواب المسارح والمعارض التي روي بأنّها تحوّلت إلى
مراتع للغبار.. عطنة بروث الفراغ .. حتى جُلّ السكّان الذين ولدوا بعد الخراب قد
اعتقدوا – وعلى نحو راسخ – بأنّ الأذى صنو الحياة ، فتواطأوا في بلاهة غريبة من
اجل هيمنة الفوضى وهي تقتلع بلا رحمة
الكتب من جذورها ، وتخرّب الحدائق
والبساتين .. ثم استمرأوا سهوا باذخا
بحكمة الهلاك .
عندها لم يكن في مقدور
قصيدة بحجم لامية الشنفرى أن تحرّك الحواس التي استأنست شهوة الموت .. فوحده الذئب
ابن الذئب أمسى بلا منازع يحملُ في جوفه بذرة الجوع وغريزة العطب.
*لهذا ظلّت شوارع الريح دائماً تعوي .
فيما قيل والعهدةُ على الراوي :
إنه عندما بلغت ضراوة الحيوان حدّاً لا يُطاق ..
أبتكر الرعاةُ دونما جدوى سبعا وسبعين طريقة لترويض الوحش ، وسبعة وسبعين
اسماً للمديح .
وسبعة وسبعين ناياً لاقتفاء الكلمة التائهة .
لكن الذئب ظلّ ذئباً .. ..
وظلّت الشوارع نهباً لسطوة الريح الهوجاء وهي تتشبّثُ بغبار أخطائها .
فيما صارت الكلمة اليتيمة التي هي اسمٌ من أربعة أحرف تنتقلُ من فمٍ إلى فم .
ومن قافلة إلى أخرى ، حتى غدت حشداً من كلمات خفيّة ، تتوّحد في كتاب
محفوظ .
¨
_____________
طرابلس ،
ربيع 2002
* من كتاب : مفاتيح الكنز .
* من كتاب : مفاتيح الكنز .