وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 31 أكتوبر 2019

نظام القبح (1) وحقبة الكتابة الفاسدة



مفتاح العمّاري




قصيدةُ النثر

حقبةُ الكتابةِ الفاسدة


    القصيدة التي كانت حتى وقت قريب تجود علينا بكل ما تملك من نعم المخيلة؛ ها هي بدورها تسلبنا كل ما نملك، وتحوله إلى عفن. لأنها نفسها قد استحالت إلى صنف متعجرف من النفاية؛ يصعب تدويره. لنجد أنفسنا إزاء حقبة شعر نفاج، متطفل، مخنث، أحمق، هجين، مومس، مخادع، مزيف، بلطجي؛ لا ينفك عن إدعاء التمرد والعربدة المائعة. لغة سائبة، متقشفة، تفتقد الحد الأدنى من معايير الجمال، وأخلاقيات شرف الكتابة واحترام قداسة الكلمة.

    أن تُكتب قصيدة بأدوات كتابة شعرية أخرى؛ لهو ضرب من اهانة الشعر. المسألة برمتها لا تتعلق بالتناص أو حتى التأثر الغبي عبر الاجترار المجاني للشكل واللغة، واستنساخ صور وخبرات وأفكار وتجارب، واغتصاب سير؛ كما لا تتوقف عند حدود الابتذال والسلوكيات الطائشة؛ بل تنذر دونما ريب بنهاية القصيدة نفسها؛ أي القضاء عليها كفاعلية جمالية؛ القضاء على فرادتها عبر تعمد تشوييها ومسخها، حتى تتحول إلى كائن سخيف ومزدرى، لا يُعول عليه. ومن ثم القضاء على أهم رافد من سلالة الجمال؛ لحظة أن تكون المحصلة مع إنماء وتراكم هذا الضرب المخزي من الكتابة الفاسدة: إعدام الشعر. المفارقة الصادمة التي أنتجتها حقبتنا الفاسدة؛ أن يشارك الشعراءُ أنفسهم في ارتكاب جريمة تصفية الشعر والتنيكل بجثته؛ لتعد هذه النكبة من أخطر النكبات التي مسّت ثروتنا الوجدانية في العمق. لأن غياب الشعر عن منظومتنا الإبداعية سينتج عنه خلل مفصلي في مسيرة الخيال الإنساني عندما تتخلى البشرية عن أهم مضخة روحية تكاد بسموها أن ترتقي لمرتبة المعتقدات. فقدان الشعر الذي رافق مسيرة الشعوب منذ أن اكتشافها المبكر للكلمات؛ لتكتسب الأشياء روحها وفعاليتها؛ سقطة كبيرة سوف يدفع الإنسان ثمنها غاليا لحظة التخلي عن أهم إشارة في تاريخ روحه وتوصيف آدميته.

    كان للوفرة العشواء التي ساهمت فيها منصات النشر الالكتروني عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحتها تقنيات الاتصال (السوشيال ميديا) أن تلعب دورا عكسيا؛ سبب في فقدان القصيدة لأهم خصائصها الفنية. لأن من بين مظاهر هذه الوفرة: الابتذال والتدوير والاستنساخ ...الخ. وعوض أن تخدم عملية الإشباع الروحي؛ والتطلب المعرفي، خلقت جوا من النفور والتقزز.

    إن ما ينتج عن مثل هذه الظواهر الثقافية هو فقدان الثقة في الشعر وتغييب دوره ووظيفته؛ على المستويين الجمالي والاجتماعي. ينسحب الشأن على الشاعر نفسه، من خلال فقدان الرهان على التجارب الأصيلة. وهكذا مع مرور الزمن سوف يظل موقع الشاعر خاليا؛ ليأتي الدور فيما بعد على الرسام والموسيقي وربما الروائي، فيما لو ظلت تجتاحنا وسائل السوشيال ميديا؛ وقد استمرت آلتها في تخريب وجداننا الجمعي، دونما ضوابط عقلانية تحد من جموحها. ولعلنا نحتاج في يوم ما إلى عقد ثقافي اجتماعي، ينظم هذه العلاقة فيما بينها وبين الناس. لأن المسألة لا تتعلق بحدود أوساط ثقافية بعينها؛ بل تشير تحديدا إلى صنف معقد وغامض وفي غاية الفلتان تعبر عنه بامتياز مشاعية الإعلام الالكتروني. 
    تكريس الوفرة إعلاميا لمنتجات الفنون والآداب كان في آن موازيا للوفرة الاستهلاكية نفسها التي فرضتها آليات اقتصاد السوق.  إن ما تشهده لحظتنا الراهنة من انتهاك للشعر بصفة عامة وقصيدة النثر بصورة خاصة، لهو هدر للقيمة، وتدنيس لقداسة الجمال، وتشويه لجوهر المعنى. لأن الشعر ليس ضربا من فنون الإمتاع وحسب؛ بل طريقة مثلى لحوارنا مع أنفسنا وعالمنا، وفضيلة لا يشك في نزاهة قصدها؛ لتقفي المعرفة. وأيضا يعد من بين السبل الأصيلة للتطهر والخلاص. الشعر لغة الروح البشرية التي تهبنا مكرمة أن يكون الإنسان إنسانا؛ لا محض بهيمة تتغوط.