مفتاح العمّاري
_____________ سردٌ مبتكر
أول شيء تبادر إلى ذهني بعد انتهائي
من قراءة رواية الدفتر الكبير لأغوتا
كريستوف . ترجمة : محمد آيت حنّا . بأنني كنت صحبة رواية مبتكرة . عمل
لا مرجعية له ، وإن ثمة أجواء ، وفقرات ذكرتني بتفاصيل صغيرة ، أحالتني إلى إغراب "الصخب
والعنف " لوليم فوكنر ، وأحيانا أخرى إلى ماركيز في " ارنديرا الطيبة
وجدتها الشريرة " . لكن تظل ثلاثية أغوتا كريستوف ، ولاسيما في جزئها
الأول : الدفتر الكبيير ، عملا مؤسسا لنمط جديد من أساليب الكتابة السردية
. سواء من حيث صكّ تلك الجمل القصيرة ، المقتصدة إلى ابعد حد ، والتي استخدم فيها
ضمير الجمع المتكلم ( نحن ) ، على لسان بطلي الرواية الرئيسيين : الطفلين التوأم . مما جعل من المنطقي اللجوء إلى تقشف اللغة ، لتنسجم
معطيات الحكي فيها ، مع المتكلم : الراوي . غير أن الأمر يُعزى أيضا لقدرات
الكاتبة نفسها باعتبارها قدّت مشروعها الروائي باللغة الفرنسية ، في فترة نزوحها
من وطنها الأصلي المجر ، ولجوئها إلى سويسرا 1956 ، بعد قمع النظام الشيوعي للثورة
المجرية . وهو ما يبرر من جهة أخرى استخدام ذلك التقشف، حيث كانت الكاتبة حديثة
العهد بلغتها الجديدة ، مما حثها على الاستعانة بالقواميس لمراجعة وتدقيق قوانين
الجملة بصرامة عجيبة .
تبدأ الرواية التمهيد لأحداثها المروّعة ، منذ
تلك اللحظة التي يقف خلالها الطفلان خارج بيت الجدة بعد وصولهما بمعية الأم ،
ولأول مرة إلى البلدة كنازحين فروا من هول الحرب التي اجتاحت المدينة الكبيرة .
وفي لحظة الترقب لما يسفر عنه تفاوض أمهما مع الجدة ، نفهم - بعد قليل - بأنهما
سيمكثان في كنف الجدة ، لضرورات تتعلق بأن البلدة أكثر أمنا من المدينة . " وأمام حديقة بيت الجدة ، قالت أمنا : - انتظراني هنا .
انتظرنا قليلا ، ثم دخلنا الحديقة . درنا حول المنزل ، جثمنا أسفل النافذة حيث تنبعث الأصوات . قال
صوت أمي : - ما عاد لدينا شيءٌ نأكله ؛ لا خبز ، ولا لحم ، ولا خضر ،ولا
حليب . لا شيء . ما عاد بوسعي إطعامهما . ردّ
صوتٌ آخر : - إذاً ، تذكّرتني . منذ عشر سنوات لم تتذكّري . عشر سنوات ، لا
زيارة ولا رسائل . قالت أمّي : - تعرفين لماذا . فأنا ، كنتُ أحبّ
أبي .الصوت الآخر : - نعم ، والآن تذكرت أن لديك أيضا أما .جئت تطلبين
مساعدتي . قالت أمّنا : - لا أطلب شيئا لأجلي . ما أريده فقط هو أن يعيش
طفلاي .
بعد نهاية المحادثة بين أم الطفلين والجدّة ، تغادر الأم
وقد نجحت كما يظهر في إقناع العجوز
، حيث سيُترك الطفلان لمواجهة مصيرهما الغامض . في البلدة الحدودية التي تدور فيها
أحداث الدفتر الكبير ، نجد العالم بقضه وقضيضه يخضع لتنقيب واكتشاف ومهارة
استثنائية ، في الحفر داخل تلك الغرابة المذهلة لكائنات هذا الفضاء . وعلى الرغم من أن هذه قراءتي الرابعة للدفتر الكبير إلا أنني ومع كل نهاية قراءة أشعر بأنه ما من شيء يليق
بإنصاف الحياة المجنونة هنا ، سوى الصمت . لعل مبعث ذلك يكمن في إعجازٍ لا متناهي
، قبضت عليه ( أغوتا كريستوف ) ، خلل هذا العالم المتفسخ الذي عكسته الحرب
، حيث كل شيء يخضع للتحلل والفساد والخيانة ، بما في ذلك الطفولة ذاتها . وما
الشقيقان التوأم - السارد بضمير المتكلم - سوى الاختزال الأشدّ أثراً لهكذا جنون
يتعاظم . لحظة أن تتواطأ البراءةُ نفسها مع
أضدادها . جراء ما تكتظ به من عنفٍ معنوي
وجسدي ، نتيجة لتأثيرات الحرب وما تحمله
من متناقضات ، عندما يضطر الطفلان إجبار نفسيهما لعمليات تمرين شديدة
القسوة ، كالتدرب على خبرات الجوع ، والصمت ، وتلقي التعذيب ، لإخضاع الجسد لكل ما
هو محتمل داخل الجحيم .
إنها -
بكل المعايير - رواية استثناء ، يتعذر الخروج من معقلها . كما أنها - وباقتدار- تعد عملا مؤسسا ورياديا في تحولات السرد ،
تتجاوز تلك العلامات التي أرساها خوان رولفو في رواية أميركا اللاتينية .
أظن
أن أهم إكرام لهذا العمل هو الاستجابة للإغواء المستمر لتكرار القراءة ، لنكتشف في
كل مرة شغفا جديدا ، وحياة أخرى تنمو في السر . لعلنا من خلال هذه المثابرة نتمكن
من كسر الدهشة وهي تتفاقم ، تحت تأثير تلك البراعة السردية التي تجسدها اللغةُ الخاضعة
- كما سبق الإشارة - لعملية اختزال وضغط شديدين ، من خلال تلك الضربات المباشرة
للجملة التي تستمد طاقتها من فطرة اللغة ذاتها ، لتبدو كما لو أنها طلقات نارية
بالغة الدقة في اصطياد المعنى ، دونما حاجة ، للجوء إلى أية مجازات ، أو استعارات
. كأن صلابة المفردة تستمد قوتها من تقشف هذه اللغة ذاتها . ليس لفقرها ، أنما مردّ
هذه الخاصية يُعزى بالدرجة الأولى لمنطق الريبة والتشكك ، في مدى إمكانية التعبير
بلغة غريبة. لهذا كان على اللغة وهي تركض أن تكتفي بأقل قدر من الألفاظ ، حيث لا
حاجة لتكديس أربعين اسما للكلب ، طالما سينبح في كل الأحوال ، وهو يحمل اسما واحدا
.
أظن أنني سأعود لإنماء هذه الملاحظات بما
يلزم . فقط سطرتها كيفما اتفق الحال بعد إلانتها من قراءة الدفتر الكبير . ولعلني في
مناسبة أخرى - إذا تلطّفت السانحة - سأعود لتوثيق ما ينصف المقروء ، سواء حول هذا
الجزء أو الجزأين الآخرين ، من ثلاثية أغوتا كريستوف .
___
منشورات دار الجمل .