مفتاح العمّاري
نسيج الأذن ..
الشاعرة جنينة السوكني 1963-2005 |
خلال عشرية التسعينيات من القرن العشرين
ظهرت في المشهد الثقافي الليبي العديد من الأصوات الشعرية الشابة ، التي تتفاوت في
ما بينها ، من حيث مستويات الكتابة والوعي النصّي . ومن بين هذه الأصوات برز صوت
الشاعرة : " جنينة السوكني " بخصائص جمالية " وتشكّلات
فنيّة ، تكاد تكون الأكثر صرامة ورسوخا ، قياسا بجيلها – من حيث الامتثال للتراث
الشعري العربي ، والوفاء المعلن لتقاليد القصيدة العربية .. بطريقة قلّ نظيرها بين
تجارب الأصوات المجايلة لها .
فلدى جنينة السوكني انشغال
ملّحٌ يهجسُ بتأصيل جملته الشعرية . ضمن بنائها الدلالي والإيقاعي ، بشكلانيه
تتوخى الاحتفاء بالصوت .. كإيقاع ومرسلة شعرية ( سماعية ) تطمح للاندغام في الأذن
أولا . وكأننا إزاء نسيج أذن يكرّس إبرته لحياكة الإنشاء .. بتنغيم مفرط .. لا
يخلو من مفاتن الرنيم وغوايات الموسيقى:
" تأخرتِ
قال الهوى
ولكن مازال في الكأس رشفة
لمن ابتعد عن سرب العاشقين
وانزوى " *
وهكذا تبدو غواية الأذن أكثر تجلّيا في
تجربة الشاعرة عبر تنويعات موسيقية تعوّل على تماسك النغم ، وتصعيد موسيقى الخارج
..
بحيث لا تأنس كثيرا لموسيقى الداخل ،
أو تحاول اختزال الجوّاني من خلال تنغيم
البراني .. كأنها لا تطمئن للموسيقى الداخلية أو هي تسعى إلى اختزال الداخل عبر
تنغيم الخارج .. من دون أن تخفي انجذابها إلى الأصل متجلّيا بصفة خاصة في إيقاعية
الخواتم التي تعتمد على الخصائص الخارجية للألفاظ .. كالقافية والرويّ .. حيث
تحتلّ الألف المقصورة دورا رئيسا في قيادة جوفه النبر .. وتلبية متطلّبات الهوس
الموسيقي ، من خلال الاتكاء على الشكل الحروفي ، مثل " الهوى ، أنزوي ،
الجوى ، أنكوى ، استوى ، الحجى ، أنحنى " كما في قصيدة " قال
الهوى " .. وعجلي ، الهوى ، الخطى ، أبهى " في قصيدة
" رشفة عجلي / والرؤى ، النّوى ،
الردى ، قصيدة : عوالم الرؤى " . وتتجلّى أيضا سمات الشكل في
تكريس الجملة الفعلية .. مع استئناس متكرر لفعلي المضارع والأمر . كما أن الموضوعة
الشعرية لدى الشاعرة ، عادة ما تقترح تنويعات إضافية فهي عوضا عن تكثيف لحظتها
تلجأ إلى استعادة الدلالات عبر توصيفات تنسج المعنى ذاته بخيوط وألوان وزخارف
صوتية . ولعلّ هذا الافتتان بالرويّ يمثل هنا إحدى المثالب الفنية التي تُصادر
الحالة الشعرية لصالح الإيقاع :
" متاهاتٌ .. أنفاق تسرقني
وتعب بين الهدب والحجر ،
وعطر أزرق ،
واصطلاء العشق الذي اعشق .
أسرق !؟ أنا حاملة مفاتيح الكون !
أي احتمال أرى
لتذبذب الموازين واهتزاز المّتسق . "
هذه المتواليات الصوتية تُفقدُ النصَّ
سلاسته وتلقائية جريانه عبر آلية التداعي كتدفّق حرّ للعبارة وهندسة عمرانها
الدلالي وبنائها الإيقاعي الذي يأتي من خارجها . مما يُدرج آلية الكتابة الشعرية
هُنا داخل نغمية تؤثث الصوت على أنقاض الحالة الشعرية التي تصادر لكي يبقى الإيقاع
وحده مدفوعاً بحمّى الرقص والخبب .. وقرقعة الحدّادين ..
كأنه إيقاع طبول الجسد . لا إيقاع وترا
لروح ..
إيقاع الخارج لا إيقاع الداخل . هذه السمة
تشكّل ابرز التمظهرات في مقترحات قصائد الشاعرة : جنينة السوكني .. حين تلجأ إلى
إيقاع نظام ، لا إيقاع فوضى .. إيقاع أرقام ، وعقارب وقت منضبط ودقيق ، لا إيقاع
مطر وحفيف أسئلة قلقة .. إيقاع طلل وخببٍ ، لا سفر في الحلم و فضاءات مدن .. إيقاع
رمل وصليل سيوف ، لا إيقاع دخان وهدير مدافع وعربات . إذن هو إيقاع تذكّر ، لا
إيقاع لحظة ماثلة بتوتّرها .
غير أننا - وعلى الرغم من ذلك كلّه لا نريد
هنا أن نغفل توق القصيدة إلى تأصيل نفسها ،وتحقّقها ، الذي يمتعه دائما الاكتفاء
بارتياحات سحر الصوت .. مما يعيقها عن ابتكار الصور وتنويع إشاراتها . ربما لأن
الأذن هنا ( تعشق قبل العين ) .. بحيث يظلّ الاستئناس بشحنة المفردة
الصوتية والاستسلام لنبرة رنيمها .. كحالة إيهامية للوتر المتسلّط الذي يستدرج القصيدة إلى تراكيب لغوية فقيرة
ومرتبكة .. تخذلها سلاسة الشعر وليونة عبارته . ونشير هُنا إلى هذا المقطع الذي
اخترناه من إحدى قصائد الشاعرة
" قناع على أقنعة رحيل
يتلوهُ ألمٌ على حلم عنه لا أتوب .
وأيوب ، سُقيتُ من كفِّيه الصبر ..
والصبرُ ، حدائق الصّبار لحروب
لا تملّوا أغنيتي ،
إن بدت لكم ..
حسناء تزينها النّدوب ."
وإزاء
هذا المقطع ، لا نشعر بأيّة انجذابات شعرية . حتى أن الحالة الشعرية المُتوخّى
تمريرها قد بدتْ مترجرجة ومفكّكة بين دلالات الأقنعة ، والرحيل والحلم والصبر
والأغنية التي هي حسناء تزينها الندوب حسب تعبير الشاعرة . وذلك نتيجة لغياب تكثيف
الحالة الشعرية . مما جعل القصيدة تكتفي فقط بتواترات لفظية عجزت عباراتها عن أن
تكون محمولة بحرارة اللحظة التي بدت غائمة ومشتتة .
وقياسا بهذا الشكل المنتخب الذي ينسحب على معظم قصائد الشاعرة ، وتحديدا (
الحروفي ) كتقطيع الأسطر وغيرها من آليات الكتابة الشعرية المعتمدة في الشعر الحر
وقصيدة النثر ، إلا انه لم يخف امتثال الشاعرة لآلية ( البيت الشعري ) وفق
النمط الكلاسيكي ، وان كان غير ملزم بنظام الصدر والعجز ، ليقف بخجل عند حدود
المغامرة الأولى لشعراء المهجر وجماعة ابولّو .. ومن بعدهم مدرسة الشعر الحرّ .
فثمة انحياز واضح للذاكرة المتحقّقة في الشكل كرهان لصالح الأصل . وكأن هذه
القرابة تشي باحترازاتها عندما تلجأ لرهان الصوت خشية الوقوع في مهبّ التجريب
ومغامرة قصيدة النثر . الأمر الذي يجعلها تتعاطف وجدانياً مع خصوبة الذاكرة ، كما
تراها هي ، كفضاء يتلاشى في متاهة الماضي ، فلا توجد في نصوصها تلك الإشارات التي
تومئ تحديدا إلى فضاء الغرف والبيوت والشوارع والحدائق .
أي أن نثر موسيقى المدينة يختفي ويتلاشى
لصالح هيمنة إيقاع الصحراء .. أو لصالح فضاء متناقض ، وهجين يستوي فيه الأزيز
بالصهيل ، والحفيف بصعقة المدن ، حيث للخيمة مفاتيح خفيّة تُخْضِعُ المنزلَ
المديني إلى مشيئة الأوتاد المهيأة للرحيل المستمر . لكن يمكن النظر إلى هذا
الوفاء المستأنس بتراثه باعتباره كحالة ، رغم وضوحها الإيقاعي ، يُتوقع منها في
الوقت ذاته أن تبحث لها عن سبل لانفتاح القصيدة
على أجناس محتملة وكتابة ممكنة .. كسمة حداثية في الكتابة الشعرية المعاصرة
، التي تطمح دائما إلى الخصوبة والتشابك مع نسيج عالمها ونثره بالقدر الذي يحقق
تناغما يلامس إيقاع اللحظة الحاضرة ، ضمن الطاقة الشعرية المتوخاة في التشكيل
والسرد والسينما . غير أن الشاعرة نجدها دائما تراهن على اقتراب محمول بغواية أجناس
فنية عتيقة كالمقامة – على سبيل المثال - ضمن الحدود التي يرسمها السجع ، وهذه
السمة وان كانت تحدّد مستوى ما من مستويات الكتابة الشعرية لا يعني أنها تقلل من
حظوظ انتساب الشاعرة إلى ديوان الشعر العربي ، ولكن تجعل من قصيدتها تبدو متطرّفة
عن تطلّعات جيلها الشعري الذي يجنح بهوس إلى مغامرة التجريب .
وبالتالي ترفع تجربة جنينة السوكني سؤالاً جريئا بصدد هذه المفارقة التي تجعل
التعايش ممكنا بين الامتثال والتمرد . وهي بالمقابل تشي بمأزق الحداثة القائمة
والمحتملة ، والتي لم تحدّد بعد أنساقها معرفياً على المستويين الإبداعي والنظري .
ومن ثم فأن شرعة النصّ الشعري ، كما تبدو
في لحظتها الراهنة ليست مرتهنة لنسق فني بعينه لكي تكتسب أحقية وجودها واستمراريتا
. ويكفي أن ندلل هُنا بأن العديد من التجارب الكلاسيكية مازالت كما يبدو تحتفظ
بمواقع شديدة الصرامة والرسوخ ، و يحتفي
بها في منابر الشعر ومهرجاناته .
وهذه إشارة إلى مفارقة
شديدة الوضوح ، تؤكد أن الذائقة الشعرية العربية المعاصرة لا يمكن الوثوق
بحساسيتها العصرية . لان
هذا التعايش بين الأشكال
الكلاسيكية والحديثة يشي بالمقابل بتداخل الأزمنة وتشابك الأمكنة ، ويشي أيضا
بإيقاع نشاز ، يتعذّر معه تحريك الشعر وعودة القصيدة إلى الشفاه .
______________________
* من المجموعة الشعرية
( مسك الحكاية ) .منشورات مجلة المؤتمر 2005 طرابلس .