مفتاح العمّاري
1
بمراجعة بسيطة لحياتي ، أدركت بأنني خارج
الكتابة لا أساوي شيئا . اعرف أن هذا الكلام خليق بكاتب قد أنجز كتبا عظيمة ،
الأمر الذي لا ينطبق عليّ . لكن يكفيني الاستمتاع بهذا الإحساس كحافز لكي استمر في
الحياة ، وان اكتب بغض النظر عن أهمية ما اكتبه . سمعت العجوز التي لا تريد أن تهدأ
، تكرر " أين أنت أيها الضال " . فهي لا تحبني ، وفي نفس الوقت لا تطيق
غيابي . قلت لها يوما ، " اتركيني لوجه الله فأنا تعبت " . قالت " من أين لك أن تعرف الله وأنت لا تصلي يا
خامل ، صدق من قال : البطن تنجب الصباغ
والدبّاغ " . هي خرفة ومقعدة ، وأنا مريض بالكاد أمشي . لهذا سأكتب جملتي
المستعصية والأصيلة ، البارقة كالموت ، التي
تترك الخراف لمشيئة الذئب . لا تلتفت ، تتركُ الصحراء وتمضي ، كما لو أن السؤال
إجابة .
<><>
أمس ، كنتُ أفضل حالا ، وإن بدوت كسولا
كعادتي . لم أحلق ذقني . الصباح رخو ، فيما السماء استحالت غبارا استعار من شمس
محجوبة ألوانا دامية وثقيلة ، تصنعُ المزيد من التطيّر والكآبة . اجتزت الدرج
بالصعوبة نفسها كلما احتجتُ خبزا أو خضارا أو تخلصت من قمامة . حياني جاري ،
القاطن في الطابق نفسه ، فرددت التحية بمثلها . سألني عن حالي وحال العجوز، فتمتمت
مقتضبا ، فيما كنت أقطع الشارع بوهن ، حذراً ، متوجّساً .
<><>
كنت لا أغادر شقتي إلا نادرا، محشورا معظم
يومي في غرفة المكتبة ، غير هيّابٍ أن أتعفّن بجوار الجاحظ وابن المقفع و بورخيس وكافكا وانسي الحاج ولاوتسو وأغوثا كريستوف وخوان رولفو وماركيز وكويلو وآخرين . أن أتعفن بكرامة بين الكتب لهو أكثر
شرفاً من الانتماء إلى عصابات القتلة .
أحيانا أعزّي نفسي ، فأقول : سواء كانت
أفكاري واضحة أو مشوشة ، عليها أن تقترف
مادتها بلا تحفّظ ، أن تخرج من كومة رأسي وتستعير ما يليق بها من عبارات . أن
تباشر الإعلان عن كونها معنية بي بالقدر الذي يجعلها تشير بطريقة واضحة ، يُفهم منها دونما لبس ، بان ثمة
شخص ما يريد أن يكتب . وان كنت لا أجد
أيما غضاضة في الذهاب بالكتابة إلى فعل الغائط ، طالما لامناص للمرء من أن
يتخرأ . هذا ما كان يجعلني اجتر قلقا مضنيا في صباح يوم الاثنين الخامس من نوفمبر
2012 حيث سيتعيّن على الكهل الذي كنته أن يستيقظ مبكرا ، وقد استقر عزمه أخيرا على
الذهاب إلى مقر منظمة قدامي المحاربين . كنت مترددا ، أحسب المسافة من بيتي إلى
هناك . في البدء كان لا مفر من تهيئة نفسي . تطلب الأمر وقتا إضافيا من
العلاج ، إذ قضيتُ قرابة شهرين وأنا اروز
هذا الثقل . لأن مسألة الخروج إلى الشارع باتت تزعجني . قالت العجوز كن شجاعا وتوكّل على الله ، فلم
أعرها اهتماما ، حتى أنني أستغرب كيف
أمكنها سبر ترددي . أمي دائما تتربّص بأفكاري . هذه العجوز الخرفة عليها أن
تدعني لحالي ، أنا ميّت منذ زمن ، ولا أريد تكريما أو تعويضا من منظمة المحاربين
القدامى . فهم محض شلة متبطلة أقامت تجمعا ونشرت العديد من الإعلانات
الدعائية لجذب البؤساء والخائبين من جنود
الجيش القدامى ممن شاركوا في حروب تشاد ولبنان وأوغندا ، وبذا استدرجت عشرات
الآلاف منهم للتسجيل في عضويتها وقد دفعوا
لإدارتها - عن طيبة خاطر - رسوم اشتراك . بعد أن أغوت أولئك المساكين تلك
الأرقام الخيالية بالنسبة لهم ، والمعلن عنها في الصحف المحلية والنشرات والمطويات
الملونة ، كنوايا طيبة لجبر الضرر أو هي
بمثابة تعويض مجز عن أضرار الحرب التي خاضوها بأوامر من الطاغية . كنت قبل أن
تقتحمني أخبار وحكايات مزاعم تعويض المحاربين القدامى أؤثث سردا عن جندي – ربما ذلك أنا - ، لكن ها قد تعذر عليّ العودة لمواصلة السرد .
حيث أحاول دونما جدوى استئناف الكتابة في روايتي التي تقطّعت أطرافها . كما لو أن
جريمة ما قد ارتكبت داخل مخيلتي لأسباب تتعلق بالعبث وحده حين تتمنّع اللغة ، وأن قردة أشقياء يلعبون بأعواد ثقاب داخل مستودع ذخيرة . لهذا : عندما لا تعثر عَلَيَّ الكلماتُ ، أنا ضائع .