وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الجمعة، 13 مارس 2015

بلد الطيوب


مفتاح العمّاري 

 الى روح الشاعر :علي صدقي عبد القادر

                                         

      الاسمُ الحركيُّ للوردةِ ،  السرياليُّّ الأخيرُ  ،  شاعرُ الشبابِ ، جاك بريفير العرب ،  شاعرُ الحبِّ .   هذا هو حارسُ الألفةِ  ، المحامي ، ( على صدقي عبد القادر ) ، بأسماء وصفات وعلامات تُشير إلى كائنٍ واحد ، هو رحّالةُ مخيّلة ، وجوّابُ سرّ ، ومكتشفُ كنوزٍ وقاراتٍ وأوطانٍ وعواصم ، بعناوين متعددة وأوصافٍ ستظلُّ طويلا حيّةً ونشيطةً ،وموقظة أحيانا  لقصيدةٍ محيّرةٍ وقلقة ، ساذجةٍ وماكرةٍ أحيانا أخرى .
     ربما  تبدّت قصيدته قادحة وذكية ، وفي نفس الوقت قد تُعدّ باردة وحميمة ، وأيضا عفوية وغامضة وبسيطة ، ومتهمة  وبريئة ، لكنها تظل لأمر فيها قوية وهشّة في آن ، ولأنها كل هذه الأخلاط المتنافرة ، تجتمع في تناغم أو نشاز ، بحيث لا نثق كثيرا في قدرة إشكالها المترجرجة على تهشيم  الأنساق ، وكسر المعايير ، وتحطيم قوانين الجمال .. ومن ثم سنتردّد في الرهان على مُكْنَةِ تمردها على كل ما هو ماثل وسائد- كما تشي أشكالها - ، وهي تخلط الجهات والأزمنة والمعاجم والكواكب والغابات والبساتين .

     هي فقط قصيدته هو وحده : على صدقي عبد القادر ..  قصيدة لأمرٍ فيها  مكتفية بنفسها ، لها مذاق الذاكرة بطعم المستقبل ، كما  لها عيون بنكهة الموسيقى ، وآذان معجونة  بأصداء قوس قزح ، وأنفاس أمكنة تغادر ، وحنوّ أمهات ينتظرن الغائب ، ولهفة حبيبات الوعد ، كأنه لا صلاة لهكذا قصيدة سوى الحلم . قصيدة معزولة ومتصالحة مع شتاتها وتيهها وانغمارها ،  ومن دون أية صرامة نجدها تُسك بكلمات عابرةٍ وبسيطةٍ ومنتهكة.. لتومئ علانية بأنها خرجت من لدن شاعر كبير ، هو دائما مثار جدلٍ وغرابة ، مثار إعجاب واستياء .كان شاعراً مختلفاً ومغايراً ..  لأن الدهشة قد كرسّت جنودها  لتأثيث  عالمه ، وكان متطلبا بالقدر الذي يحرّض على التأمل لا الفهم / على النظر لا الإصغاء . عاش طيلة رحلته الشعرية شغوفا ومتفائلا بالحياة ، لأنه منذ البدء قد اقترح الفرح بمباهج وحواس شتى ، فانحازت إليه الوردةُ وفاطمةُ ومعاجمُ الحبّ .

     وعلى الرغم من أن شاعرنا  لم يترك إرثا باذخا بكنوز المعنى  ،إلا أنه قد ورّث لقاموس الوجدان الليبي كل شيء حين سطّر بحبر الروح ، قصيدته الخالدة : بلد الطيوب  ..  لهذا يتعذّر تجاهله أو نسيانه ، كما يتعذّر معرفة قصيدة النثر في مشهدنا الثقافي المحلّي، وتوصيف مسار تجربة الشعر الليبي من دون أن يُشار إليه – غالباً كشكلٍ محض -  لا يحفل بالتنظير ، أو بأية شروط أو  براهين ، غير شروط المخيلة أو براهين الشغف بالبهاء . هذا هو ( علي صدقي عبد القادر ) كما أتذكّره الآن، بهيئة عاشق توطّن في البرزخ ، إلى حدّ أن القصيدة قد وهبت نفسها لعبث الطفولة وفوضى الجمال المبارك .

      ظل شاعرنا طيلة تجواله مأخوذا بالمستقبل على الرغم من توطنه المؤبّد في مهرجان الروائح العتيقة . شاعر ندرة ، مثلما يصعب القبض على قصيدته ، يصعب أيضا التنصّل من فتنته . لأن الشعر يسكن هذه الكلمة أو تلك  بهيئة وردة أو سمكة أو نجمة  أو رباط عنق ، فثمة دائما خلطة عجيبة من الغوايات المشاغبة ، غوايات مرحة تجذب الحواس النائمة ، وتَفتنُ بإصرار متعمّد هوس المخيلة ، لكي نهتف على طريقته ، " يحيا الحب " .